حين انفجرت الحروب الأهلية والإقليمية في لبنان في أبريل/ نيسان 1975 وتطايرت الجمهورية إلى اجزاء تحكمها ميليشيات استولت على مناطق تتمتع بتجانس طائفي - مذهبي وتراجع دور الدولة وتخلت مكرهة عن مسئولياتها المدنية والخدمية وتحولت الى مجرد رب عمل يدفع أجور الموظفين في نهاية كل شهر... حين انفجرت تلك الحروب انفرجت أسارير الأنظمة الشمولية في المنطقة العربية وارتاحت من هذا «النموذج» المزعج.
رحبت الأنظمة الشمولية آنذاك بانهيار «النموذج» واستخدمته ذريعة لتبرير الدكتاتورية والقمع. وفي تلك الفترة صدرت الكثير من المقالات والتعليقات التي تتحدث عن سلبيات الحرية. فالحرية - كما ذكرت تلك الآراء - تعني الفوضى، والفوضى تعني انهيار الأمن، وانهيار الأمن يعني انقسام البلاد وتشرذمها وسقوطها في فخ الاحتراب الأهلي. فبعد العام 1975 تحول لبنان الى نموذج للسخرية من الحريات واحترام حقوق الانسان والحق في التعبير عن الرأي. فمن يريد الحرية - كما ذهبت تلك التعليقات المدفوعة الأجر - يعني انه يريد لبنان الفوضى والخطف على الهوية والقتل المجاني وغيرها من كلمات استغلت الدماء البريئة للحديث عن فضائل الدكتاتورية والقمع وكبت الحريات وتكميم الأفواه والسحل في الشوارع وامتهان كرامة الإنسان وسجنه لسنوات من دون توجيه تهمة أو تحقيق.
لم تتعلم الأنظمة الشمولية من انهيار التجربة اللبنانية سوى السلبيات لتبرير سلوكها وتثبيت قانون الطوارئ وملاحقة الحريات، وبالتالي تخوين المعارضة واتهامها بالمراهنة على الخارج دفاعاً عن مصالحها. هذه هي الدروس التي تعلمتها الأنظمة الشمولية من المأساة اللبنانية. فالمأساة كانت مناسبة لإظهار مدى فعالية الأمن في ضبط حكم القانون، وبالتالي فإن الكبت يعزز الاستقرار ويمنع انتشار الفوضى.
الأنظمة الشمولية في المنطقة كانت أكثر الدول استفادة من انهيار التجربة اللبنانية، اذ حولت هذه التجربة إلى مثال للسخرية ووسيلة للبطش بالمعارضة التي كانت تنادي باتباع النموذج اللبناني على كل سلبياته وثغراته. فالمثال اللبناني تحول إلى تهمة يعاقب عليها القانون؛ لأن المطالِب به يعني أنه يريد الفوضى وانعدام الأمن لدولته وبلاده.
المشكلة في تلك الأقلام التي تبرعت بالدفاع عن الدكتاتورية والقمع وطرد المعارضة وإلغاء التعدد والحرية أنها لم تفكر لحظة في ان سبب انهيار التجربة اللبنانية في العام 1975 لم يكن نتاج الانفتاح واحترام حقوق الإنسان، بل يعود الانهيار الى عشرات من الأسباب الدولية والاقليمية اضافة الى طبيعة النظام نفسه الذي يعتمد الطائفية في توزيع السلطات والصلاحيات. فالنظام القائم على التوزيع النسبي للحصص أعاد انتاج الأزمة التي أسهمت في خلخلة التوازن بين السكان. فالمشكلة لم تكن في الحرية بل في نظامها المتبع في لبنان الذي أوجد النقص ومنعها من التطور والتقدم. فالمشكلة كانت في التعارض بين الحرية وبين قنوات التعبير عنها. فالقنوات هي التي عطلت امكانات تطور الحرية ولم تكن الحرية السبب في تعطيل التطور.
لبنان الطائفي الذي اعتمد على نصوص لتوزيع السلطات والصلاحيات أضعف دور الدولة وموقعها المركزي في قيادة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وبسبب تلك القنوات الضيقة أعاد النظام انتاج أزمته لأنه أسهم في إضعاف الهوية الجامعة (اللبنانية) وعزز دور الهويات الصغيرة أو الضيقة التي انتشرت في المناطق لتأخذ الألوان المحلية من طائفية ومذهبية ومناطقية.
المشكلة لم تكن في كثرة الحريات وإنما في قلتها. ولم تكن المشكلة في الحرية نفسها وإنما في طريقة توزيعها والقنوات الطائفية التي كانت تمر بها، الأمر الذي أضعف الرابطة الوطنية (الهوية اللبنانية) وقوّى دور الروابط المحلية التي تتحكم بها الدوائر الضيقة في مختلف البقاع والمناطق.
حرب لبنان يجب ان تدرس من كل الجوانب والجهات والفائدة الوحيدة منها انها تعطي فكرة عن ان الحرية ليست كافية اذا لم تتوافر معها قوانين العدل. فالعدل يضبط القانون والقانون يعقلن الحرية والحرية تعطي الحق للإنسان في إعادة صوغها وتهذيبها بالمزيد من التقدم والتطور بهدف تعزيز الكرامة وحمايتها من عدوان اقلام بعض الانتهازيين والمصطادين في المستنقعات.
الأنظمة الشمولية ودعاة الدكتاتورية والمستفيدون من قوانين القمع فرحوا كثيراً حين انهار النموذج اللبناني في العام 1975. فالانهيار كان مناسبة لهؤلاء لتجديد الدعوة إلى مغادرة الحرية في وقت كانت الظروف تدفع نحو المزيد من التطوير والاصلاح لصيانة الحرية وكرامة الإنسان وحقوقه. والفارق بين الطرفين هو فعلاً كالفارق بين الانسان الحر وإنسان امتهن العيش في ظل العبودية والقهر. وهذه هي في النهاية خلاصة التجربة اللبنانية في سلبياتها وايجابياتها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 818 - الأربعاء 01 ديسمبر 2004م الموافق 18 شوال 1425هـ