العدد 818 - الأربعاء 01 ديسمبر 2004م الموافق 18 شوال 1425هـ

ذكريات غير «صحوية» وحديث عن الثبات والتحول

الرياض - منصور النقيدان 

تحديث: 12 مايو 2017

سافر أبوعبدالله مطلع الثمانينات الميلادية إلى أميركا للدراسة، وبعد ثلاثة عشر عاماً عاد إلى بلده، وفي مدينته الصغيرة لاحظ تغيراً كبيراً، احتاج إلى وقت لكي يستوعب حقيقة ما جرى. فهو يؤمن بأن التدين الحقيقي لابد أن ينعكس على سلوك وتعامل من اتصف به مهما أسرف على نفسه من الذنوب، فهو يحب الصالحين و«ليس منهم»، ولكنه كان على موعد مع ظاهرة جديدة كانت اكتسحت كل ما أمامها وصبغت الناس بطابعها، وشكلتهم وفق مفهوم جديد لـ «الدين». غير أن المفاجأة أنه عاد وحديث الشيخ بين طلابه يدور بشأن «الثبات» على الدين، والداعية بين مريديه يحذّر من «الزيغ» و«المنتكسين». كانت فترة انكماش نسبي في ظاهرة التدين (الصحوي) التي كانت ضربت رواقها حيثما يمم الإنسان وجهه.

اختلف عليه كل شيء... فما الذي حدث للناس؟

في صغري كانت العجائز والقواعد من النساء اللواتي أباح القرآن لهن أن يضعن حجابهن بكشف وجوههن والتخفف من ثيابهن، كنت أقابلهن في الطرقات، وفي الأسواق وعند أبواب المساجد سافرات الوجوه، أصبحت بنت الستين عاماً اليوم تلبس جوارب اليدين وتخشى أن يزجرها على رؤوس الملأ من هو في سن حفيدها إن هي خففت غطاء وجهها. لبس جوارب اليدين أصبح اليوم دلالة على عفة المرأة وشدة تدينها، في وقت سابق لم تكن النساء يعرفن ذلك، عجوز جاوزت السبعين لم تُخْفِ تذمرها حينما تعلق بعباءتها حفيدها ابن ست السنوات وهو يصرخ «غطي وجهك يوجد رجال» فدفعت به بعيداً عنها.

الطفل نفسه الذي اعترض جدته حمل السكين يوماً لأخته الصغرى لأنها لبست سروالاً قصيراً بين أهلها.

قبلة الأخ لأخته والوالد لابنته والولد لوالدته غدت اليوم شبهة وريبة، وثبت أن الرسول كان يقبل ابنته فاطمة وتقبله كلما دخلت عليه.

لا أذكر وأنا صغير أن بيتاً كان يخلو من أشرطة المغنين فأنت تسمع «حجاب» و«سميرة توفيق» و«الصريخ» و«شادية» و«فايزة أحمد» و«أم كلثوم» في السيارة، وعند الإشارة، وفي البيت، وإذا سمعوا المؤذن استغفروا الله، وخفضوا صوت المغني، وإذا اجتمعت النساء في منزل إحداهن، أو في نزهة خارج المدينة خلون بأنفسهن وبعيداً عن أعين الرجال يرقصن ويلهون. كل هذا صار اليوم امارة على الغفلة وقسوة القلب، وأصبح رقص النساء بينهن عند بعضهم لهواً محرماً، أو إثارة جنسية ينبغي سد ذريعتها!

في الزواج والأعراس كان الرجال أحياناً يرقصون والنساء ينظرن إليهم. وتسمع صوتَ (الطقاقات) وأنت في السوق، وربما تلصص البعض وأطلوا من السطوح أو من النوافذ. الآن تخصص قصور الأفراح أماكن لمن يتأثمن من سماع الغناء(ضرب الدفوف)، ودخل الرسول (ص) نفسه على الرُّبيِّع بنت معوذ يوم عرسها وجلس قريباً منها على سريرها (أريكتها)، والجواري يغنين بين يديه كما ثبت في الصحيح، وكان الصحابة يقفون على الأبواب في الأعراس ويسمعون غناء النساء كما ذكر ابن تيمية.

اليوم تُمنعُ القصورُ من تجهيز صالة النساء بمكبرات الصوت حتى لا تخرج أصوات المغنيات إلى الخارج. ولو همّ بعض الصبية بالرقص بين النساء لربما دوهم القصر واقتيد معه من رضي ومن أقر ومن تابع ووضعوا في التوقيف، وفي صحيح البخاري أن عائشة كانت تشاهد رقص الأحباش بحرابهم والرسول معها.

كان الناس من قبل يرون العرس مكاناً للبهجة والأنس، وان المواعظ مكانها المسجد، فوجود واعظ يقوم بتذكير الناس بالآخرة وعذاب القبر ونعيم الجنة، أمر لم نعرفه إلا نهاية الثمانينات، أما اليوم فمن السهل أن يقوم شاب حدث السن، ويمسك بالمايكروفون والجميع يصغي، ومن يتذمر أو يحتج يوصف بالعلمنة وكراهية ما أنزل الله. قطعاً أن الوعظ في الأعراس لم يفعله الرسول ولا فقهاء الصحابة ولا سلف الأمة.

تجول حيثما شئت في التسجيلات الإسلامية والفنية، لن تجد تلاوة قرآنية أو محاضرة دينية، أو ثقافية أو أمسية شعرية نسائية. ستجد للفنانات.لكنك لن تجد شيئاً لأديبات أو (داعيات)، أو مثقفات، لأن صوت المرأة غدا اليوم عورة، ومثيراً للشبق الجنسي لدى الرجال حتى في محاضرة علمية وفكرية. السلف لصالح كانوا يتلقون العلم على شيخات ومحدثات مثل كريمة المروزية وبيبا بنت عبدالصمد، وكان فيهن واعظات، ربما حضر مجالس وعظهن الرجال.

لم يكن الناس يعرفون لفظ «الملتزم» لمن اختار أن يعفي لحيته ويقصر ثوبه، ويتطوع. هذه جاءت لاحقاً. السخرية والغمز واللمز بالمطاوعة (لباسهم وسمتهم وطريقتهم في الحديث) كانت سمة عامة.

في حرب تحرير الكويت شطر مجتمعنا بفضل الخطب والمحاضرات والدروس التي كانت تحاصر الناس في كل ثقب إلى: علمانيين، وإسلاميين ولا توجد منطقة ثالثة. امتطى البعض هذه المطية حيناً من الدهر، وعادوا أدراجهم بعد حين من انحسارها. كانت موضة وتقليعة خفَّت حدتها كثيراً ولم تزل بعد، ولكن آثارها المدمرة لم تزل باقية وضحاياها باقون مقيمون بيننا.

أذكر في تلك الفترة كيف أنه كان يقام في إحدى المدن مأدبة بعد صلاة العشاء لإحراق أجهزة التلفزيون، أحياناً يكون الضحية جهازاً واحدا، وربما أحرقت مجموعة من الأجهزة. أعرف بنتاً من أقاربي رفضت أن تنام في الدور العلوي الذي تقيم فيه مع أهلها لوجود جهاز التلفزيون وفضلت أن تنام عند المدخل تحت الدرج. كانت تخشى أن يأتيها الموت وهي في مكان يحوي آلة لهو محرمة.

منتصف التسعينات الميلادية طرأ شيء من الانحسار وانكماش في التدين الصحوي، كان لذلك أسباب وعوامل يطول شرحها، غير أن الملفت هو أن تلك الفترة شهدت تركيزاً من قبل الدعاة والمشايخ على الحديث عن «الفتور» و«أسباب الثبات»، وموضوعات كثيرة تتفرع عن هذه المسألة.

غالبيــة المشــايخ والدعاة كانوا يحصرون أسباب التحول(الزيغ/الانتكاس) في عوامل قد تكون نتيجة لا سبباً؛ كما أنهم دائماً يبرئون التجربة والنموذج القائم الناجز وتصورهم للمسلم الصالح باعتباره نموذجاً للكمال، ليس محل نقاش ولا إعادة نظر.

أعتقد أن كون الإنسان ذا حس عال للتأثر بالمتغيرات من حوله، سواء الاجتماعية العامة، أو الثقافية، أو المؤثرات المحيطة به أحد أهم الأسباب للتحول، ومنها أن يكون ذا عقلية متسائلة دائماً، ومنها عمق التجربة الدينية التي تقوم على التسليم فقط، مع إحساس الإنسان في الوقت نفسه بشعور جارف بالإثم من التفكير في قضايا تتعلق بحقيقة الدين، قد تكون وجودية وقد تكون ما دونها، ما يسبب انشطاراً داخلياً قد يفضي إلى الانسلاخ من تلك التجربة. وقد يصل إلى إجابة وقناعة نهائية، وقد يركنها على الرف، وقد يخبو الحس الديني، فتغدو لديه غير ذات بال.

ومنها خيبة الأمل التي تصيب الشاب حينما يجد أن الأبواب مسدودة، وأن الإجابات معدومة... بحيث تكون لديه إشكالات كبرى لم يجد من يساعده على فهمها، واستيعابها، قد تكون تلك الأزمة بصيص النور لعالم أرحب وفضاء أوسع.

المتابع للفضاء الديني التقليدي والصحوي المعاصر يلحظ استخدام تعابير كالزيغ والانحراف، والانتكاس، والارتداد أوصافاً تطلق على من يختلفون، أوطرأ عليهم الاختلاف ومدى قربهم أو بعدهم سلوكياً عن النموذج للمسلم الصالح (المتدين) أو (الملتزم)، وبحسب مساحة التحول التي تظهر، يمنح الشخص أحد تلك الأوصاف، أدناها درجة تعبير ملطَّف له أصل جاء في سنن ابن حبان هو( الفتور)، وهو أن يعتري المسلم خمول، وتلكؤ يظهر ابتداءً من التفريط بالسنن، كالرواتب بعد الصلوات، أو صيام الاثنين والخميس، والاكتفاء بفرائض الدين. ويتعاظم هذا التغير حتى يصل إلى مرحلة من التحول تستوجب وصفاً جديداً.

«مسرف على نفسه» عبارة كانت متداولة بين الوعاظ وأهل الحديث من السلف في فترات متقدمة من الإسلام، وكان الفقيه الشافعي صدرالدين ابن الوكيل، معروفاً بـارتكابه بعض «القاذورات» فلما بلغ ابن تيمية خبر وفاته قال: «رحمه الله لقد كان مسرفاً على نفسه». وأصل هذا الوصف مأخوذ من آية في سورة الزمر في قوله تعالى: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله» (الزمر: 53).

وفي مقام العلماء يذكر المؤرخون في سيرة ابن دريد أن طلابه كانوا يرون في مجلسه آلات الموسيقى وكؤوس الخمر، وأحد المستشرقين من أصدقاء الإمام محمد عبده، كان يشكك في صدق التزام الشيخ حقيقة بتعاليم الإسلام وأحكامه، حتى قال: لا أدري هل هو مسلم أم لا؟

ونسمع أحياناً وصف الآخرين بـ «الفسق» أيضاً، وفي القرآن الكريم لم يأت وصف الفسق إلا في حق الكفار والمشركين، كما في سورة السجدة؛ غير أنها في فترة متأخرة جرى التوسع في استخدام لفظ «الفاسق» على المسلم الذي يأتي ببعض المخالفات الشرعية، وفي قصة الفرزدق أن امرأة شكته إلى زوجته نوار و قالت لها: «إن زوجك رجل فاسق»، فقد كان هذا الوصف مألوفاً تلك الفترة، وإن كنت أجزم أنها لفظة قصد بها الشتم أكثر من اعتبارها وصفاً حقيقياً لحال الفرزدق ومن كان على شاكلته، فقد كانت بقايا الخوارج وشذاذهم لايزالون يعاودون الظهور، وكان لهم ميراثهم الذي يتناقله الناس وقواميسهم الخاصة بهم وألفاظهم «الدينية» التي يطلقونها على مخالفيهم، وتنزيلهم المسلمين العصاة منزلة الكفار، ما يدل على أنها عبارة دخيلة لا تستند إلى أصل شرعي، ونقل أبويعلى الحنبلي في طبقات الحنابلة والذهبي في سير أعلام النبلاء هذه العبارة عن بعض السلف. وفي القاموس الصحوي يلجأ البعض عوضاً عن وصف الآخرين بالفسق إلى استخدام عبارة غير «ملتزم» أو (مسرف على نفسه) تلطيفاً.

كثيراً ما ينبه بعض الدعاة إلى أن مرحلة الفتور قد تتلوها خطوات أخرى بحيث يتبع التقصير في المستحبات تقصير آخر قد يكون ارتكاباً لمعصية أو تركاً لواجب، ومثال واحد على ذلك، فشريحة واسعة من المحاضن الصحوية تنظر إلى أن لبس العقال والاهتمام المتزايد باللباس، هو العتبة الأولى للانحراف، لأن العقال سيماء (الزكرت) والعُصاة.

الظريف في الأمر أن النفرة من لبس العقال ترجع جذورها إلى «الاخوان البدو» الذين أثاروا جدلاً حول حكم لبس العقال وتحريم بعض مطاوعتهم له، في الوقت الذي كانوا فيه يلبسون العصائب، ما دفع أحد علماء الرياض إلى أن يخطب على المنبر يوم الجمعة والعقال على رأسه، ليبين عملياً أن لبسه جائز شرعاً، وأن العصابة والعقال شيء واحد، ليس لأحدهما مزية دينية على الآخر.

الخطورة تكمن في جعل مساحة المباح، و«العفو» الذي تجاوز الله عنه، والاكتفاء بالفرائض بحسب ما جاء به الإسلام النقي الخالص من الإضافات، منطقة مشبوهة ومنذرة بشر؛ بحيث نسمع أحياناً أن الإغراق في المباحات ليس من سيماء الصالحين اعتماداً على احتمالات ومفهومات شاذة لنصوص القرآن ووقائع السنة، أو استشهاداً بقصص ينقلونها عمن لا تقوم بهم حجة شرعية من الأوائل الذين كانت حياتهم وطريقة عيشهم مخالفة تماماً لما كان عليه الرسول (ص)، أو أن يكون منح أوصاف الإيمان للأعيان بمراتبها وفق اجتهادات فقهية «محلية» لا تعكس المفهوم الأصيل للدين.

الأمر يتعلق بإشكال إدراكنا لمفهوم «الإيمان» الشرعي، وهل هو قاصر على الظاهر والباطن، أم انه حقيقة مركبة من كلا الاثنين؟ ومتعلق أيضاً بأحكام مسميات الإيمان وأوصافه، هي مسألة كلامية عقدية في المقام الأول، وتطرق إليها العلماء تحت عناوين كثيرة، كتميز طائفة بزي محدد معين، أو باسم يميزهم عن غيرهم من فئات المؤمنين الآخرين.

حينما نستقرئ نصوص الشريعة، لن نجد مثل هذه المسميات «ملتزم» و«فاسق» في العهد الأول، فقد كانت فئات المجتمع المدني بحسب التقسيم القرآني ثلاثاً. المؤمنين، والكافرين والمنافقين. ماعدا ذلك كان الناس اثنين: مؤمناً، وكافراً. وكان في المؤمنين المسلمين من يتخلف عن صلاة الفجر كصفوان بن المعطل الذي جاءت زوجته تشتكيه لرسول الله (ص)، وفيهم من يتعرض للنساء في الطرقات، وفيهم من كان معروفاً بسوء تعامله وسلاطة لسانه، كـ (أخو العشيرة) الذي قال فيه الرسول: «شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره» وفيهم من لم يكن يعرف إلا الأركان الخمسة، كضمام بن ثعلبة فقال فيه الرسول: «أفلح إن صدق».

إذا نظرنا إلى مفهوم الإيمان الشرعي وجدناه مراتب: كمال الإيمان المستحب وأصحاب هذه المنزلة هم من جاء وصفهم في القرآن بـ «المحسنين، والسابقين» وكمال الإيمان الواجب وهم المؤمنون الذين يقومون بالواجبات ويجتنبون المحرمات، ومطلق الإيمان وهو إيمان من يلابسون المحرمات ويرتكبون الكبائر، كالصحابي الذي كان كثيراً ما يؤتى به بين يدي الرسول ليقيم عليه عقوبة شرب المسكر. ونهى الرسول عن لعنه، وأخبر أنه يحب الله ورسوله، ومع ذلك فهو وغيره من الصحابة الذين عرفوا بارتكاب المعاصي لم يطلق عليهم وصف «المسرفين» ولا «الفاسقين»، ولا على من هم أكثر تمسكاً وصف (الملتزمين)، فقد كان الجميع يعون جيداً قوله: «فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى» (النجم: 32).

وأخيراً... الكثيرون يتغيرون في الظل، ولكن القلة هم الذين يملكون الشجاعة ليتحدثوا عن تجاربهم





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً