العدد 2813 - الأربعاء 19 مايو 2010م الموافق 05 جمادى الآخرة 1431هـ

رضي يقرأ مجموعة «خديجة» للستراوي

في أمسية الشعراء الشباب بأسرة الأدباء والكتاب

عقدت أسرة الأدباء والكتاب أمسية لقراءة النصوص الشعرية الشبابية، حيث استضافت كلاً من النقاد زكريا رضي، وحسن علي علي وحبيب حيدر، قدم رضي ورقة نقدية في مجموعة خديجة للشاعر أحمد الستراوي، فيما قرأ حسن علي مجموعة الشاعر حسين فخر الياسمينية، فيما خصص حبيب حيدر ورقته لقراءة ديلمونيات الجلاوي.

في البداية أشار رضي إلى أن هذه القراءة تختار عينة عشوائية من مجموعة الشاعر أحمد الستراوي المعنونة خديجة، وفي اختيار هذه العينة، لا يمكنها الادعاء بأن الإمساك ببنية نص خديجة، وشبكته الدلالية، قد بات طوع اليد، وإنما هو من باب (لا يسقط الميسور بالمعسور). وقد تكفي تلك المقتطعات النصية لجعلها مفاتيح إلى النص الأكبر الذي هو المجموعة برمتها، واخترنا هنا مدخلين افتراضيين اثنين، الأول تأويلي، ويعنى بتتبع تلك المقتطعات النصية، للعثور على (معنى المعنى) فيها، ومدلولاتها القصية، والثاني نحوي/ تركيبي ركزنا فيه على بعض الظواهر النحوية المطردة في التجربة.


المدخل الأول (ما في الجبة إلاي والفناء في الجسد

ويسألني الله وحدي

كأني الوحيد الذي عكس الظلّ

مدّ فناجينه

وأوى يستريح على غيمة النهد

يسرق منها الأرائك،،،

(من قصيدة يشرب من تحت الصدر)

لدينا ما يحيل في النص المقتطع إلى عهدة صوفيّ، خلع جبته على باب الحانة، وأعطى لرغبته حرية التشكل، وفوضى الأشياء. الأنا حاضرة، تصطفي عالمها، كما تريد، وتختار، وتنظم علاقتها بالسماء في خصوصية وسرية فريدة، (ويسألني الله وحدي) إن هذه الوحدة تخفي توحداً من جانب، كما أنها تحكي عن عزلة فريدة للذات وللتجربة، تكون فيها (وحدي) فحسب بعيدة عن كل العلائق والكائنات الأخرى.

وعليه فدوران المحور لفظيا ودلائليا في هذا النص يتجه نحو عالم ظلي يذكر بالقول الصوفي (كلّ ما في الكون وهمٌ أو خيال/ أو عكوسٌ في مرايا أو ظلال) (كأني الوحيد الذي عكس الظل).

لا يقف الإشباع بالتوحد عند عتبة السؤال فحسب وتخوم الروح، بل يمس الجسد، بعنفوانه ورغبته الجامحة، فيعود منكفئا إلى الجسد، مستريحا على أعتابه (مدّ فناجينه وأوى يستريح على غيمة النهد). الجسد يصبح معادلا ومكافئا لقوة الجذب الخارجة، ليصبح قوة جذب معاكسة. ووحدة المناجاة والسؤال التي تتكرر وتدور مرتين (ويسألني الله وحدي)، يعود جوابها في الانغماس في الجسد، والارتماء تحت غيمته.


المدخل الثاني (لعبة الخطاب والغائب)

وأضاف رضي أن تحريك عناصر النص، ومفرداته سيأخذ شكل السلسلة التي لا طرف لبدايتها، ولا لنهايتها، وستلعب ضمائر الغائب لعبة أشبه ما تكون بلعبة (الاستغماء) التي لا يعرف فيها الطفل من ضرب من ومن أمسك بمن.

لنقرأ:

ويسألني الله وحدي

لماذا الربيع يصافحهم حافي القدمين ويتركهم

لماذا تعدى المكان وأجلسني

أنا من يسوي الحقول يوشوش صعدتها ما نجوتُ

ويجري المياه بأصلابهم ما نجوتُ

أنا كل خلق جديدٍ بأمري ويرتفع الكأس شبرين لكنني ما نجوتُ

إن عملية تشتيت النص، وتوزيع ضمائر الغائب، بطريقة دائرية (يصافحهم/ يتركهم/ أصلابهم) ثم قطعها بضمير المتكلم (أنا من يسوي/ أنا كل خلقٍ/ أجلسني/ يسألني) دفعت بالقصيدة - إلى حد ما - أن تفقد تواصلها وتماسكها النصي وأصبحت كما أسلفتُ أولا، أشبه ما تكون بسلسلة دائرية لا يمكن الإمساك بطرف بدايتها أو نهايتها، ولعل المقطع السابق يظهر كيف تم بتر الاتصال بين جملتين شعريتين متوازيتين في تحريك ضمير الغائب لماذا الربيعُ يصافحهم/ يتركهم باقتحام الأنا (أنا من يسوي الحقول يوشوش صعدتها) ثم العودة مرة إلى حكاية الغائب (ويجري المياه بأصلابهم).

في حين بقي النص وفيا لصوفيته الأولى التي عكست الظل، وتوحد الشاعر بالوجود (أنا كل خلق جديد بأمري)، (ولولاي ما انتبه الشاعر الموغل أصبعه في الكلام الطري) التمركز والتوحد بالأنا التي تحيط بكل الأشياء، ويصدر عنها كل شيء (أنا كل خلق جديد بأمري).

إن التوزيع النحوي لضمائر الغيبة بقي سائدا في نصوص أخرى من المجموعة ومنها قصيدة (مستحيلٌ وطن) وكان التنقل بين ضمائر المتكلم والغيبة يشكو من نقلات فجائية إلى الدرجة التي يصعب معها حينا أن تمسك بمرجعية الضمير، أو ما يعود إليه، ومثالاً لا على سبيل الحصر، يمكن للقراءة أن تتبع المسار الخطّي لولادة نص (مستحيل وطن) لكشف مساره وتعرجاته:

أكبر من حزننا/ وطنٌ ولدته القصائد/ منتشرٌ صمته/ انتخبته السماء/ لذاكرة الذئب يفرك أحراشها/ يفتش عن ورق الاحتضار/ وعن غيمة ترتدي موت فنجانها/ وطأتها اليمامات/ قلمت الشيب بين أصابعها/ عن طرق ألفت حجم أقدامنا/ عن كلام الحدائق/ كان الرجوع نوارس في صدرها.

لعل لعبة الإحالات عبر الضمائر بالاستتار تارة، وحينا بالتخفي خلف الغائب الشاهد، مكنت النص من أن يعدد في احتمالاته عبر تعدد مراجع الضمير (الغائب) بالأخص، فما بين وطنٍ ولدته القصائد وعبورا بـ (انتخبته) السماء ووصولا لذاكرة الذئب يفرك أحراشها، تتعدد احتمالات العائد في ضمير أحراشها بين أن يكون أحراش القصائد - وطنٌ ولدته القصائد - أو أحراش السماء وهو احتمال أقرب، لسبقها في الترتيب والتعاقب الزمني. وبالمثل في قصيدة (ويكفي أنا كبرنا) يمكن الوقوف لوهلة أولى عند المقطع الشعري الآتي:

المسافةُ توقظ موتا جميلا كصبغتنا/ أخرج الشمسَ حين اكتملتُ - قتيلاً يواري سكاكين قاتله - كانت تربي القصائد في نومها،،، إن توالي الضمائر وتنقلها المفاجئ من صبغتنا إلى اكتملتُ إلى الاستتار بكانت تربي القصائد في نومها وكلها في نسق نصي واحد، يجعل القدرة على التنبؤ بمرجعيات الضمير غائبا أو ظاهرا من الصعوبة بمكان، ويحيل إلى تشتت في النص قد يضر بوحدته الداخلية، وبتماسك أجزائه. إلا إذا اعتبرنا أن هذا التحول والتنقل بين مستويات الضمائر مستترة أو ظاهرة إنما هو جزءٌ من بنية النص ذاته المبني على التوالد، ونعني بذلك أن الجملة (أ) تولد الجملة (ب) والجملة (ب) تولد الجملة (ج) وهكذا دواليك.

إن بناء القصيدة على شكل توالدي كهذا، من شأنه أن يضمن تدفقا مستمرا للنص، ولحركته الدلالية، ومثاله المقطع السابق الذي بدأ بدأ بأكبر من حزننا، حيث قادت إلى (وطن ولدته القصائد)، الذي أخذ بدوره النص إلى المقطع التالي (منتشرٌ صمته) إلى آخر المقطع الشعري.

إن نسقا توالديا يضمن استمرارية القصيدة لغة ودلالة ورؤية.


التقديم والتأخير

إذ تؤكد النقدية الحديثة على أهمية ودور التركيب النحوي شعريا، ومنه ما أكدته اجتهادات ياكبسون من أن التركيب النحوي باستطاعته أن يتحول إلى أداة شعرية فعالة، فإن تتبع بعض هذه الظواهر الملفتة في النص الشعري، جديرة بأن تدفع بالتأويل إلى أقصى حدوده الممكنة وإن تمكن من دخول النص من أكثر من باب.

وقد بدا جليا أن الشاعر قد استعمل التقديم والتأخير بشكل ملفت على صعيد العنونة، وعلى صعيد الجمل الشعرية نفسها فمن ذلك عنونته للقصيدة الثانية بمستحيل وطن، بدلا من وطن مستحيل، وفي (منتشر صمته) بدلا صمته المنتشر/ الغريبُ يجيء/ المسافة مرغها/ لك الله يا امرأة صيفُها الصمت/ إلى غيرها من الشواهد الموزعة في نصوص المجموعة، والتي يلحظ في بعضها، أنها تقدم الاسم على الفعل كالغريب يجيءُ، والمسافة مرغها، ما يمكن أن يعطي مؤشرا على أن الشاعر وظف التقديم والتأخير بما يخدم جمالية النص، وبما يعطي أولوية لحركة الدال وحريته في فضاء النص.

ولا يخفى ما يمكن للدال لحظة انفصاله أو تقديمه أو تصدره في الجملة الشعرية، من أثر جمالي على صعيد بناء الصورة الشعرية، ونطاق التخييل، لما يكون للمقدم عادة من صدارة وأهمية على المتأخر، ولكبر المساحة التي يستغرق فيها الوصف أو اللفظ المقدم، على المتأخر ومن أمثلته (المسافة مرغها) فهو يعطيك أولا حجم المسافة وامتدادها النفسي والمادي ثم يعقبها بفعل التمريغ، وقد لا يتوازى ذلك أبدا فيما لو قدم الفعل على الاسم، وقس على ذلك ما يوازي هذا التركيب من تركيبات مشابهة كصيفها الصمت، بدلا من الصمت صيفها، ما يجعل من الصمت هيمنة وسيادة واستغراقا قد لا يعطيه بقاء التركيب اللغوي على تراتبه الأولي البسيط.


خديجة أيقونة الحب والخلاص

بقي أن خديجة تحضر في نصوص المجموعة كعنصر توازن وسلام وحب، يتجلى فيها الحب والسكون، ويتحرك بها النص بسلاسة واطمئنان، ففي قصيدة على هامش خديجة تتحول خديجة إلى مقام مناجاة، يبث الشاعر عبرها شكواه، ويحكي آلامه وأوجاعه، وتأخذ القصيدة هنا شكلا سرديا يحكي سيرة التجربة:

خديجة مر علي القتيل/ على يده عطش الطفل/ لم يحتمل رغبة الموت/ فاستل رخو اللغات يقسمها للذين يمرون،،، خديجة مر علي القتيل/ يفتش عن ناره ليؤانسها وعصاه تعكز لم يتجل بجانب طور إلهته/ وتعثر بالغيم في موسم القحط.

تتشكل خديجة في النص كصديق مقرب أو ولي أو ما أشبه، فهي لا تحكي ولكن تنصت وتستقبل سيرة الوجع بصدر مشفق فيما يتوالى الوجع يحكي قصته، خديجةُ... لم يكن القتلُ أهونَ من جرحنا،،، خديجة كم سال موتٌ علي/ وغادر الليل يأخذ بعض الوجوه.

إن خديجة وهي تتوارى حجابا في النص، تتحول لرمز أقدس، وتتخذ القصيدة شكل الصلاة والاستغاثة، وتتجمع عناصر النص كلها في هذه القصيدة، كوجع واحد متصل.

بينما في (اشتهاءات صيفية) يتحرك النص دلاليا نحو العاطفة في أوجّها، والقصيدة كاسمها تعطف على كلماتها، وتمنحها دفء المحبّ، وتتقمص خديجة القصيدة ويتقمصها النص:

أراني أزاوج وجهي/ وصيف فتاتي/ يمر بنا الوقت/ يمسح أدراجنا بالموسيقى/ نقهقه مغتربين على قصة لم يكن للنبيذ العراقي فيها نصيب.

لعل حدة الاغتراب في التجربة تخف حدتها هنا وتختلف وتيرة اللغة الشعرية فيها عن مثيلاتها في المجموعة، فتغدو اللغة أكثر حميمية وشاعرية وأكثر اتساقا، أنادمها/ عن نوارس لا تستقر بمينائها/ عن شموس تبالغ في الحب/ عن جهة مكث الطيبون إليها/ عن قتيل مضى موته بقصيدة/ إذ نلحظ توازيا في تقسيم هذا النص من حيث إيقاعه وتكرار وحداته وتوالي (عن) في أول كل مقطع من القصيدة، فيما تدفع عاطفة الحب بالتجربة إلى أوجها، حتى أنها تتجلى فيخلع المحب ثوب بشريته، ويشاء أن يكون نبيا/ كان لي رغبة أن أكون نبيا/.

إن مجموعة خديجة للشاعر أحمد الستراوي جزء من تجربة ممتدة، جديرة بأن تقرأ قراءة متأنية، وأن يتم تسليط الضوء على مراحلها ومسارها حتى اكتمالها وبلوغها النضج، وهي تمثل درجة عالية في الجمالية الشعرية لم تنل فرصتها وحظها من القراءة النقدية بعد. وجدير بأن يتاح لنص أحمد الستراوي الفرصة الأكبر في إثرائه بالدرس النقدي، واستنطاقه بالتأويل.

العدد 2813 - الأربعاء 19 مايو 2010م الموافق 05 جمادى الآخرة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً