ما هي الكلمة التي تتردد بكثرة على لسان البحرينيين؟ الديمقراطية، الاصلاح، الشفافية، المشروع الاصلاحي، الحريات، الدستور، الميثاق؟ هذه مفردات خطاب سائد ومستجد وهي لكثرة ترددها أصبحت مثل الديباجة، أو مقدمة لإثبات حسن النية لرأي يدرك صاحبه سلفاً انه يحتاج لتبرير إضافي، كلي غير قابل للمناقشة.
لكثرة ما تتردد، أصبحت لازمة لكل أولئك الناطقين بألف قضية متضادة. وبات من النادر اليوم ان تجد من ينطق برأي من دون ان يسبقه أو يلحقه المشروع الاصلاحي والحريات والديمقراطية. التراجع أو التقدم بات مرهوناً بالمشروع الاصلاحي، أما اننا سنتراجع عن المشروع أو نتقدم معه وبه، لكنها غدت مفردة تبريرية لا أكثر ولا أقل. فهل هي الكلمة أو الكلمات الأكثر ترديداً على لسان البحرينيين؟ لا أظن.
شيوع هذه المفردات في الخطاب السائد قد يقودنا إلى مدلول آخر. الالحاح على هذه المفردات يعني في وجه آخر اننا نفتقدها عملياً أيضاً. لكن دعكم من هذا كله، ليست هذه هي الكلمات الأكثر تردداً بين البحرينيين.
كيف تبدأون التعليق على أية قضية تعنيكم؟ قضية حياة يومية أو قضية عامة؟ أية كلمة تستخدمون؟
قبل يومين كنت في المستشفى أنتظر دوري مع العشرات، وعندما انهيت تسجيل اسمي سألت موظف الاستقبال عن المكان التالي الذي يتعين علي ان اقصده فاجابني باقتضاب وهو يشير بيده: «هناك».
أين هذه الـ «هناك»؟ هناك تعني أربع جهات ومن الواضح ان الموظف يفترض انني أعرف سلفا الاجراءات والاماكن. جلست وأنا أردد بيني وبين نفسي: «المفروض ان يعلموهم كيف يرشدون المرضى بدقة ووضوح وألا يفترضوا ان كل من تطأ قدماه المستشفى يعرف كل الاجراءات وتسلسلها لأن المستشفى ليس مكان زيارات يومية للناس».
هل لحظتم الكلمة التي بدأت بها عبارتي: «المفروض». من هنا نبدأ. منذ ان تفتح عينيك صباحاً وحتى لحظة أن تخلد للنوم، لن تجد مفردة تتردد على لسانك أو لسان من ستصادفهم أكثر من هذه: «المفروض».
في المجالس والديوانيات وكلما التقى اثنان، ليست هناك من كلمة ستتردد أكثر من كلمة: «المفروض». ما هو هذا «المفروض» الذي يتردد بين كل عبارتين في أي حديث؟
سواء تعلق الأمر بشكوانا المستمرة من مديرينا أم بالاختناقات المرورية أو الكيفية التي يتعلم بها أبناؤنا في المدارس أو كيف نتلقى العلاج المجاني في مستشفيات الحكومة وصولاً الى أكبر قضايانا ومشكلاتنا (بعض منها للتذكير: البطالة، رفع مستوى المعيشة، انعاش الاقتصاد، احترام الحريات) فإن «المفروض» هي الكلمة التي سنبدأ بها احاديثنا دوما.
ان وقفت في طابور تسديد فاتورة الكهرباء ستسمع الكلمة تتردد في كل ارجاء المكان. وان قدت سيارتك في الشارع لن تغنيك الاذاعات ولا مكالمات الهاتف النقال عن ترديد هذه الكلمة ولو مرة واحدة على الأقل. ان أخذت طفلك الى الطوارىء ستؤلف كتابا اسمه «المفروض على وزارة الصحة». ان تصفّحت الصحف، لن تجد كلمة ترد الى ذهنك بعد قراءة كل خبر أو موضوع أو تصريح سوى: «المفروض».
إن سألت عن أكثر ما ألفت اذناي منذ سنوات وحتى اليوم، فإنها كلمة «المفروض» أو في صيغها الأكثر تكلفاً: «يفترض»، «من المفترض»، أو صيغها الأكثر جزماً: «يجب»، «ينبغي» أو حتى صيغها المخففة التي تنطوي على رجاء: «لماذا لا يفعلون كذا بدلاً من كذا؟»، «لماذا لا يقولون كذا، بدلاً من هذه العبارة المستهلكة؟».
تعبير عن شيء مفقود، لكن «شيء» تبدو قاصرة عن الاحاطة بهذا الفقدان لأن قائمة ما نفتقده طويلة. أترك الامر لكم ولخيالكم الآن، فالقائمة تبدأ من «العقليات» والممارسات والخطط والسياسات والتدابير والمشروعات ولا تنتهي عند الكلمات التي يخاطبنا بها الموظفون العموميون بل وحتى الكلمات التي نتبادلها يومياً.
كلمة تعكس حال عدم رضا داخلي مازالت تستحوذ علينا بقوة، والبلد لكثرة ما تردد مفردات الديمقراطية والاصلاح والشفافية تبدو وكأنها خلقت لنفسها عالماً افتراضياً تهرب به من واقع ليس بهيجاً. وعلى هذا النحو يزدهر الخطاب دوما بمفردات رائجة: الديمقراطية، الاصلاح، الشفافية في مقابل لغة شكوى يومية لا يتردد فيها سوى كلمة «المفروض». نحن نكره الحقائق ولا نحب ان نسمع الا ما يرضينا، وهذا الالحاح على الديمقراطية والاصلاح والوحدة الوطنية في الخطاب ليس سوى هروب من حقائق ليست مبهجة حتماً يعتمل بها واقعنا.
هل نسيتم اجابتكم المستهلكة على كل من يبدو حالما بعض الشيء، حتى أطفالكم: «المفروض شيء والواقع شيء آخر»... أليست هذه خاتمة كل نقاش حول أية قضية؟
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 816 - الإثنين 29 نوفمبر 2004م الموافق 16 شوال 1425هـ