صحيح أن اتفاق باريس النووي بين إيران والدول الأوروبية الثلاث فرنسا وألمانيا وبريطانيا قد وضع إيران على الخريطة النووية باعتبارها «عضواً رسمياً» في النادي النووي، وبذلك يكون المفاوض الإيراني قد حقق ما كان يطمح إليه من اعتراف دولي يصبح مكتوباً على الورق لأول مرة.
لكن الصحيح أيضاً أن ما حصل في نهاية المطاف التفاوضي الطويل الذي بدأته أوروبا مع إيران سواء بالأصالة عن نفسها كما يحاول الثنائي الفرنسي - الألماني أن يصوّر للمفاوض الإيراني، أو نيابة عن الأميركيين كما هو الدور المناط للبريطانيين والذي يتمظهر في أبعاد ومستويات متعددة من مستويات التعامل مع الإيرانيين، ما حصل في الواقع هو أن الملف الإيراني النووي قد تم وضعه في «بازار المساومات السياسية» بعيداً عن موقعه الأصلي المتمثل بكونه خلافاً حقوقياً - تقنياً بين إيران، العضوة الرسمية في معاهدة الـ NPT والوكالة الدولية للطاقة الذرية التي من واجبها تقديم كل العون إلى الإيرانيين بمجرد التأكد من خلو البرنامج الإيراني من أي انحراف نحو التسلح النووي.
ولهذا السبب بالذات تخوّف الكثير من الساسة الإيرانيين المحسوبين على التيار المحافظ المسكونين بتوجس دائم نحو كل ما هو غربي من مثل هذا التوافق وشبّهوه بـ «أوسلو الفلسطينية» ووصفوا الامتيازات المتبادلة بـ «إعطاء اللؤلؤ المصقول مقابل ماء السكر»، بل إن قائد الحرس الثوري السابق محسن رضائي قال: «إننا لم نتسلم حتى ماء السكر هذا بل تسلمنا سراباً»!
لكنه ثمة من يعتقد هنا بأنه وإن كان ليس من الإنصاف تشبيه «اتفاق باريس» الإيراني - أو كما يفضل الإيرانيون أن يسمونه (اتفاق سعد آباد - 2) باعتباره أعلن في قصر سعد آباد الرئاسي استمرار لاتفاق سعد آباد - 1 الذي كان مع وزراء خارجية الدول الأوروبية الثلاث في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي باتفاق أوسلو الفلسطيني التساومي الخطير! إلا أنه قد يحمل في طيّاته بعضاً من روح أوسلو الفلسطينية للأسباب الآتية:
أولاً: اعتقاد المفاوض الإيراني ولأول مرة بهذا الوضوح بأنه لا يمكن انتزاع اعتراف دولي بأي حق من حقوق إيران الوطنية الثابتة من دون السياق التفاوضي الدبلوماسي الطويل.
ثانياً: قبول المفاوض الإيراني ولأول مرة أيضاً للتفاوض غير المباشر مع الأميركيين وهم أصحاب المشكل الأساسي مع الإيرانيين والخصم الحقيقي المصمم على «تسييس» الملف النووي الإيراني والتعامل معه كـ «سيف» مسلّط على رقبة صانع القرار الإيراني، وبالتالي استخدام طريقة إبقاء «اليد على الزناد» دوماً أثناء التفاوض مع الإيرانيين للحصول على ما يُراد منهم في الملفات الأخرى الشائكة.
وهنا بالذات ثمة من يتخوف من المحافظين أن وراء الأكمة ما وراءَها من وراء هذا الاتفاق، وقد تكون ثمة تعهدات متبادلة خارج ما هو مدوّن ومعلن!
صحيح أنه لم يعلن أو يكشف عن وجود ملحقات لهذا الاتفاق، والإشارة السياسية الوحيدة التي قد يشم من ورائها وجود شيء ما غير معلن هي العبارة الأخيرة من الاتفاق والتي تنص: «أنه وبغض النظر عن التقدم الحاصل بشأن الملف النووي فإن دول الاتحاد الثلاث وإيران يؤكدون عزمهم على محاربة الإرهاب والذي يشمل نشاطات القاعدة وكل المنظمات الإرهابية مثل منظمة مجاهدي خلق، ومساندتهم المستمرة للعملية السياسية في العراق بهدف إيجاد حكومة قانونية منتخبة».
وهنا مرة أخرى لا أظن أنه من الإنصاف الحديث عن وجود ملحق سري للاتفاق كما هي الحال مع اتفاق أوسلو الفلسطيني أو النهج التفاوضي الفلسطيني أصلاً. لكن ثمة إشارات أخرى مع ذلك تثير لدى رموز المحافظين المتشددين قلقاً جدياً ألا وهي:
أولاً: إسهام الدبلوماسية الإيرانية بشكل فاعل في مسار شرم الشيخ «العراقي» تحت السقف الأميركي الواضح كوضوح نجم كولن باول على طاولة العشاء «الخرازية».
ثانياً: استعداد إيران للمساهمة الفعّالة في منتدى المستقبل الذي ينتظر انعقاده في المغرب بدعوة أميركية نشطة تحت عنوان «الشرق الأوسط الكبير» على رغم الهجوم الواسع الذي لقيه ولايزال هذا العنوان من قبل مرشد الثورة ورئيس الجمهورية في أكثر من مناسبة، واعتباره «مشروعاً شيطانياً» كما ورد على لسان الرئيس الإيراني الإصلاحي المعتدل.
ثالثاً: إسهام إيراني فعّال كما هو مرتقب في منتدى المنامة المرتقب في الأسبوع الأول 7 ديسمبر/ كانون الأول والذي تنظمه بريطانيا العجوز تحت عنوان «نحو إطار جديد للأمن الإقليمي».
إنها خطوات لاشك جسورة وعقلانية وتحمل في طياتها التدبير والحكمة الإيرانية المشهودتين في العقل الدبلوماسي الإيراني كما يقول المتحمسون لهذا النهج، ولا يخلو الأمر من قبول عام لهذه المقولة لدى الرأي العام الإيراني والإقليمي والدولي.
لكنها في الوقت نفسه «مهمات» محفوفة بالمخاطر إن لم تكن محسوبة جيداً وتحديداً يجب ألا تكون كـ «تبادل اللؤلؤ المصقول مقابل ماء السكر».
ثم بعد ذلك، وهنا قد يكمن بيت القصيد، ألا وهو: ماذا لو تخلى الجانب الأوروبي سواء بالأصالة عن نفسه أو بالنيابة عن الأميركي عن كل تعهداته وقرر الالتحاق بخيار لائحة «غافني» الليكودية الأميركية المتشددة التي لا تقبل بأقل من ضرب المنشآت النووية الإيرانية والإطاحة بالنظام الإيراني واستبداله بنظام «ديمقراطي» محول جواً كما تشير التحولات الجارية في وزارة الخارجية الأميركية والتي يستعد المحافظون الجدد لإعادة صوغها في عهد بوش الثاني وما يقال عن إدخال عنصر جديد إليها كمساعد للوزيرة العتيدة ليس فقط لا يحمل أي ودّ للنظام الإيراني بل ومن دعاة عودة «الشاهنشاهية» إليها؟!
أعرف أنه نوع من «العبط» الأميركي تجاه إيران التي لا يفهمها ولا يفقه دورتها الداخلية المغلقة على التدخل الأجنبي المباشر، لكن العالم يتغيّر بسرعة هائلة ودورات الشعوب والمجتمعات بدأت تتداخل بصورة متسارعة وغير مسبوقة أحياناً، فهل أعد المفاوض الإيراني عدته لأيام غير مسبوقة؟! هذا ما يطالب به المحافظون المعتدلون الذين قبلوا «التحدي الدبلوماسي». وهذا ما يعدّ له المحافظون الأصوليون على قدم وساق آخذين في الاعتبار تجارب الآخرين. وهذا ما تحذر منه القيادة الإيرانية بصورة شبه يومية في خطابها القابل للتحدي لكنها غير المتفائلة كثيراً بتعهدات أوروبا «القديمة» فضلاً عن تشككها الدائم بنوايا أوروبا «العجوز» وإن بدت جديدة. هذا فيما يبقى «الإصلاحيون» الإيرانيون المتحمسون لخيار سعد آباد - 2 بالكامل ولملحقاته أو توابعه وتداعياته، خارج دائرة الفعل الحقيقي إلا اللهم أن تأتيهم النجدة من حكومة «وحدة وطنية» يتمنونها وتحتاجها إيران بقوة لمواجهة تحديات المرحلة المقبلة يتأمل الكثيرون أن يوفر أرضيتها الرئيس الإيراني الجديد الذي يُفترض أن يخلف عهد خاتمي ابتداءً من نهاية الصيف المقبل
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 816 - الإثنين 29 نوفمبر 2004م الموافق 16 شوال 1425هـ