«الاستخلاج» مثل مصطلح الاستشراق أو الاستغراب، إذا كان الأول يعني اهتمام بعض الدارسين من أهل الغرب بالشرق، والثاني هو العكس، على غير دراية وتعمق، فإن الاستخلاج هو اهتمام البعض (العربي أو الغربي) بالخليج من دون دراية كبيرة.
وما لفت نظري للاستخلاج هو كتاب الصديق رياض نجيب الريس الذي صدر أخيراً بعنوان «آخر الخوارج: أشياء من سيرة صحافية»، ورياض صحافي قدير وناشر من بين أمور أخرى، وهو الذي ابتدع كلاماً عن الكتاب العربي يقول فيه: «إن نصف الكتب التي تطبع لا تشترى، ونصف ما يشترى لا يقرأ، ونصف ما يقرأ لا يفهم». وهي مقولة يرددها البعض للتدليل على «الفقر القرائي» للأمة، واسع الانتشار.
قرأت الكتاب السابق، وأقول بشغف كبير، لأن رياض من جملة حملة الأقلام العربية التي تشد القارئ بأسلوبها السهل الممتنع، هو من طبقة كتاب عرب كثيرين حباهم الله بتلك الموهبة الجميلة، ولا أريد أن أسرد أسماءهم هنا، وهم ينتمون إلى بلاد مثل تونس والعراق والخليج ولبنان ومصر: إن كتاب رياض الريس «آخر الخوارج» فيه خصوبة كبيرة وشيء من الخطورة، فإن قبلت كل ما قرأت فيه فأنت بالتأكيد لست على الطريق الصحيح، ولكنك إن استخدمت عقلك، فإن قراءة الكتاب متعة دونها المتع الأخرى تتضاءل.
هو ليس سيرة حياة كاملة، فهناك أسرار لدى رياض لم يرد أن يكشف عنها كما ألمح، إلاّ أن الكتاب يرسم بريشة كاتب قادر زمناً عشناه جزئياً في هذا الجيل، وعاش رياض تقريباً الزمن المروي كله، متنقلاً بين ضفاف وضفاف في مسيرة الصحافة العربية، وخصوصاً اللبنانية واللبنانية المهاجرة، وما واجه الصحافيين فيها من عناء وما حققوا من انتصارات، فهي مسيرة شائكة ومتقلبة وعسيرة، طرق أبوابها في سبيل حب كبير، هو الكلمة الحرة.
ولعلّي في البداية اتفق قبل أن اختلف مع الكاتب، فأنا اتفق معه في ثلاث من القضايا التي عرض لها، وأختلف معه في واحدة.
اتفق معه في أن مسيرة الكلمة في بلادنا العربية عموماً هي مسيرة صعبة، ولعلها كانت أصعب في الماضي عندما تقلب العرب بين يسار ويمين وبين شرق وغرب، كما اتفق معه في شكواه المرّة عما يصادف الكتاب العربي ونشره وانتشاره وأية مسافة من الحرية التي يكسبها أو يتاح له كسبها، كما اتفق معه في وصفه لمدينة بيروت التي أحبها والتي يعشقها كثيرون في السابق واللاحق.
إلا أني اختلف معه في قضية أراها مركزية، وعرض لها في كتابه بشكل متجزأ، وهي إن صح التعبير «قضية» الخليج، وموقف بعض الكتاب منها وموقف الخليج، مرة أخرى إن صح التعبير، من هؤلاء الكتاب.
رياض الريس كاتب من بين آخرين يشكل بدقة ظاهرة «الاستخلاج» التي أشرت إليها في صدر المقال أفضل تمثيل، فهو كما يقول اهتم بالكتابة عن قضايا الخليج في الوقت الذي لم يهتم كاتب آخر بها (أوائل الستينات) وتابعها عن قرب، وله أصدقاء فيه منذ زمن، إلا أنه في الكثير من منعطفات الكتاب يذكر قارئه بنظرة لا تخرج عن «التصغير» للتجربة في الخليج عموماً، وبشكل يكاد يكون معمماً.
مع هذه النظرة لدي نقطتان، الأولى أن «عرب النفط» بالمعنى السلبي التهكمي لدى بعض الكتاب العرب، هم فقط عرب الخليج، ويتجاوز هذا البعض أن النفط العربي ليس في الخليج فقط ولكنه أيضاً في الجزائر وليبيا والعراق، وهو في بعض تلك البلدان أوفر من بعض دول الخليج. إلاّ أن كثيراً من النقد عن «عرب النفط» منصبٌ على دول، حتى لا أقول مواطني الخليج، وفي هذا المنظور قصور كبير في التحليل. وليس المجال هنا هو مجال الدفاع أو التبرير، بل هو تحديد أدق للمنهجية، فكثيرون يرون أن النقد في موضوع «أهل النفط» منصبٌّ على فئة، ومتروك لفئة أخرى، ذلك النقد فيه رائحة لموقف شبه عنصري أكثر منه موقفاً عقلانياً ونقداً إيجابياً. ولقد تبيّن اليوم أن المعركة، إن كان ثمة شيء يوصف بهذا المعنى العام، هي معركة بين التقدم بمعناه العام، وبين البقاء في المكان أو التراجع، وإن عدنا الى التقسيم غير الموضوعي بين أهلين للنفط العربي، فإن التقدم بمعناه العام قد حقّق جزءًا منه في الدول الواقعة في الخليج، وحرم منه وأكاد أقول بشكل غير مبّرر أهل النفط العرب من خارج دول الخليج، وهو حكمٌ موضوعي لا يختلف عليه العقلاء كثيراً، مع تسليمي بأن أهل النفط في الخليج مازالوا يطالبون بالأفضل والأنفع والأكثر جدية واستدامة من خطط التنمية.
حقيقة الأمر أنه بعد قراءة كتاب رياض الريس «آخر الخوارج» يخرج القارئ بانطباع أن المساحة المركزية للكتاب هي «سورية ولبنان» والأخيرة هي الأكثر تناولاً، وتجربة الكاتب في المنفى الاختياري (بريطانيا) بعد ذلك، أما الإشارة الى الباقين من الدول فهي إشارة عابرة وضئيلة وعامة، ومن حق الكاتب أن يغمس ريشة قلمه ليرسم الصورة كما عاشها، وهي صورة محزنة وممتعة في آن، ومقروءة بكل تأكيد.
إلا أن الإشارة الى «الموقف» من أهل الخليج تحمل في طياتها كما قلت رائحة «الاستخلاج»، وليس من المبرر أن تكون بضع زيارات لعواصم الخليج، أو معرفة بعض أهل القرار فيه أو خلاف بسبب خيبة أمل في التطلعات نحوه، منسية كاتب بقامة رياض أن هناك ناساً من أمثاله يكتبون ويطالبون ويسعون الى الأفضل في حياتهم وحياة الأجيال القادمة في ذلك الجزء من العالم.
من العدل أن ينقد كتاب الريس على أنه «استخلاجي» في ما أشار إليه تجاه الخليج، فكتابه وإن كثرت فيه الأسماء ذات الإنتاج الأدبي والثقافي الكبير من أهل لبنان وسورية وقليلاً جداً العراق، وهي قامات لاشك في طول باعها وتأثيرها في العالم العربي، لم يُشر الى أسماء وأعمال كتاب مثل ليلى العثمان أو أبودهمان أو القصيبي أو الأنصاري أو الوقيان أو المر، من بين عشرات من المبدعين من الكويت والسعودية والبحرين والإمارات وعمان وغيرهم كثيرون تشكل أعمالهم ونتاجهم الفني والفكري نبض الشارع وتطلعات أبنائه.
إن مرارة ما مرّ به رياض الريس من تجارب يشعر بها القارئ المحايد ويتعاطف معها بعمق ومحبة، إلاّ أن النصيحة في النهاية هي للمحبين، فإن عزم الصديق رياض أن يكتب كتابه المؤجل كما وعد وهو «الأريج البهيج في نوادر الخليج»، فعليه أن يتذكر أنه ليس من المقنع أن يشير إلى أن البعض في الخليج لم يساعدوه في بعض مشروعاته لأنه «يرتدي طقماً كحلياً إنجليزي الخياطة، وربطة عنق عريضة، وحذاءً إنجليزياً جديد الصنع، ويحمل سيجاراً ضخماً في يديه». هل يعقل أن يكون مظهره ذاك فقط هو الذي أفشل أحد أهم مشروعاته الصحافية؟!
تلك ظاهرة استخلاجية على أعلى مستوى من الاستخلاج. إلا أن آخر الخوارج متعة للقراءة والتبصر، ومنظراً يكون قطاعياً إلى فترة عزيزة من الزمن العربي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 816 - الإثنين 29 نوفمبر 2004م الموافق 16 شوال 1425هـ