العدد 816 - الإثنين 29 نوفمبر 2004م الموافق 16 شوال 1425هـ

أوكرانيا... التاريخ والجغرافيا

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل يتطور الصراع على انتخابات الرئاسة في أوكرانيا إلى صراع دولي على النفوذ في البحر الأسود؟

هذا الاحتمال ليس مستبعداً وخصوصاً بعد أن أدخل قرار البرلمان الأوكراني البلاد في أزمة جديدة حين ألغى نتيجة الانتخابات الرئاسية وطالب بإعادتها للمرة الثالثة. فهذا القرار الذي صوت البرلمان عليه بغالبية 307 أصوات ومعارضة نائب وامتناع 106 عن التصويت استبق تحقيقات المحكمة العليا وأحرج موقف الحكومة التي أيدت نتيجة الاقتراع وأعطى قوة دفع للمعارضة بمواصلة تحركها في الشارع واستثمار النتائج الميدانية لكل التداعيات.

أوكرانيا الآن في وضع صعب. فالانقسام خرج من المؤسسات إلى الشارع. والناس منقسمة بين مؤيد للنتيجة ومعارض لها. كذلك الدول الكبرى فهي موزعة الأهواء بين تحالف ثناني أوروبي - أميركي ضاغط وبين موقف روسي متردد في الدفاع عن مصالحه وربما لا يملك القدرة الميدانية على تعديل تلك التوازنات السياسية. فموسكو أيدت النتيجة وتركت القرار النهائي للمؤسسات بينما التحالف الثنائي شكك في صدقية الاقتراع مستخدماً الشارع وسيلة للضغط.

هذا الوضع السياسي يعتبر مشكلة عابرة في دول تتميز بالتجانس القومي اللغوي والجغرافي. ولكنه ليس صحياً في دول تعاني من انقسامات أهلية بسبب اختلاف الانتماءات القومية واللغوية والجغرافية إضافة إلى المذهبية. فأوكرانيا كدولة هي كيان سياسي مركب من مزيج غير متجانس بين شرقها (الروسي) وغربها (الأوروبي). ولأن العاصمة كييف تقع في الشطر الغربي نجحت المعارضة في إنزال جماهيرها إلى الشارع لكسر قرار الحكومة وتنصيب مرشحها فيكتور يوتشينكو رئيساً للدولة. بينما فشلت القوى المضادة في نشر أنصارها في العاصمة لأن مناطقها تقع بعيدة عن العاصمة.

هذا الانقسام الأهلي يهدد فعلاً وحدة الدولة وربما أدى إلى تفاقم الخلاف بسبب القرارات التي أسهمت في إعادة إنتاج الأزمة.

مشكلة أوكرانيا معقدة وهي أكبر بكثير من «صناديق الاقتراع». كذلك فإن الأزمة التي تجددت ليست جديدة وتعود أصلاً إلى عشرات العقود وإلى زمن القيصرية الروسية حين حاول الكرملين مدّ نفوذه إلى المياه الدافئة والوصول إلى البحر الأبيض المتوسط.

مشكلة أوكرانيا ليست مستقلة عن الصراع الدولي القديم والمتجدد وهي في النهاية مشكلة روسيا وطموحها الى الوصول إلى المياه الدافئة ومخاوف الدول الكبرى من سلبيات هذا الحق الطبيعي الذي تطمح إليه كل دولة تريد ممارسة نفوذها على المستوى العالمي.

مشكلة روسيا ليست مع أوكرانيا وإنما مع الدول الكبرى. والجانب الآخر لأزمة «صناديق الاقتراع» يتمثل في محاولة التحالف الثنائي منع موسكو من التمتع بموقع خاص على ساحل البحر الأسود. مخاوف روسيا في محلها فهي تتخوف من أن تعود السياسة الدولية القديمة التي عمدت دائماً إلى تطويق موسكو ومنعها من الانتقال من دولة قارية معزولة عن المياه الدافئة إلى دولة تملك مثل هذا الموقع الذي يوفر لها فرص النمو المستقل عن هيمنة الدول الكبرى.

ما يحصل الآن في أوكرانيا يكشف تلك الصورة المرعبة التي حصلت في القرن التاسع عشر حين بدأت قوة روسيا القيصرية تنمو في شرق أوروبا وحوض نهر الدانوب على حساب السلطنة العثمانية فاندلعت الحرب الروسية - العثمانية في 1827 - 1829. ثم تجددت تلك الحرب حين أخذت موسكو تخطط في العام 1853 للوصول إلى البحر المتوسط من طريق السيطرة على مضيق الدردنيل على البحر الأسود.

طلب العثمانيون آنذاك مساعدة البحرية الفرنسية - البريطانية واستجابت باريس ولندن لطلب المساعدة وأنزلت قوات مشتركة عثمانية - فرنسية - بريطانية في البحر الأسود ونشبت معارك في شبه جزيرة القرم وانهزمت القوات الروسية وانسحبت من المنطقة في العام 1856.

هذا الضغط الأوروبي (الدولي) آنذاك دفع الكرملين إلى البحث عن منافذ أخرى، فحصل التقدم العسكري الروسي في مناطق القفقاس واحتلها في 1864 ثم توسع في مناطق آسيا الوسطى (الجمهوريات الإسلامية) وأصبحت كل المناطق تحت سيطرة موسكو في العام 1890.

استمر هذا الوضع مع تعديلات بسيطة في عهد الاتحاد السوفياتي إلى أن انهارت صيغته في تسعينات القرن الماضي (بعد مئة سنة تقريباً) وأخذت الجمهوريات تستقل عن موسكو بينما دخلت بعض مناطق القفقاس في صراعات محلية وصولاً إلى تلك المناطق الواقعة على البحر الأسود.

روسيا خسرت الكثير من مناطق نفوذها بينما نجحت الولايات المتحدة في مدّ نفوذها إلى تلك الجمهوريات والآن تضغط بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي لطردها من أوكرانيا والحد من موقعها الجغرافي في البحر الأسود. فهل توافق موسكو وتنسحب سلماً أم إنها سترى نفسها مدفوعة للدفاع عن مصالحها ومواقع نفوذها كما حصل سابقاً في حرب القرم؟

المخاوف كثيرة ويصعب التكهن بالقرار النهائي الذي ستلجأ إليه موسكو إلا أن ما يمكن ملاحظته أن قوانين الجغرافيا تساهم أحياناً في صناعة التاريخ. فالكثير من المواجهات حصلت منذ قرون وأعيد إنتاجها على رغم اختلاف الزمن وتطور المواصلات. فهل يتغلب التاريخ على الجغرافيا في أوكرانيا أم يحصل العكس ويتطور الخلاف على الانتخابات إلى صراع على النفوذ؟... من يدري

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 816 - الإثنين 29 نوفمبر 2004م الموافق 16 شوال 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً