أعلن الرئيس البوليفي إيفو موراليس وهو أول رئيس منتخب لهذا البلد الواقع في قلب قارة أميركا اللاتينية شرق البرازيل عند توزيعه لأراضٍ على مئات من السكان الأصليين أن الدولة تريد من خلال سياسة رد الأرض للسكان الأصليين التنبيه على أن الأرض أهم من المال والوطن أهم من العملة الصعبة.
وقد ردد كلامه السابق منذ أيام في هذا الاحتفال حين أكد على أن سياسة الدولة ليست ضد الملكية الخاصة، لكن حين يتضمن الأمر استغلال للفلاحين وعدم اكتراث بالسياسة الزراعية للوطن فإن الدولة لابد أن ترسل رسائل قوية لأصحاب الأراضي من أصحاب الثروات الكبيرة.
على جانب آخر أكد الرئيس البرازيلي لولا دا سالفا أن هدف أية تسوية للأزمة المالية يجب أن يكون هدفها الإنسان وليس السوق، لأن إعادة سوق رأس مالي شرس على قدميه مرة أخرى لن يؤدي إلا لمزيد من الكوارث القادمة التي يدفع ثمنها مئات الملايين من البشر.
هذه كانت أهم أخبار أميركا اللاتينية التي صرتُ أتابعها منذ زيارة البرازيل والتي حملتني إلى أميركا الجنوبية لأشاهد عالما لا نهتم بأخباره، ولا نعرف أسماء رؤسائه ولا موقع بلدانه، فنحن لا ننظر إلا للغرب والشمال، أما الشرق والجنوب الذي هو منا ونحن منه فأبصارنا عنه عمياء وآذاننا صماء.
في تصفحي لشبكة الإنترنت بحثا عن آخر أخبار «البشرية» أي تعريفات الإنسان وخصائصه وفلسفات وتصورات إجابة عن سؤال: «ما معنى أن تكون إنسانا؟»... وجدت المفوضية الأوروبية ترعى مشروعا ضخما به تسعة عشر فريقا بحثيا يضم مئات الجامعات وموازنات تربو على الأربعين مليون يورو فقط للإجابة عن هذا السؤال الذي يبدو بسيطا، مع التركيز على الأبعاد الجينية والأبعاد اللغوية والاتصالية، وهو مشروع يغلب عليه منظور نظرية التطور لداروين حيث تتكرر الإشارة للفارق البسيط بين عالم القردة وعالم الإنسان، وتهدف البحوث لفهم النقاط المفصلية التي عندها «تحول» الكائن الحيواني إلى إنسان، والسمات المشتركة التي مازالت مهيمنة مثل لغة الجسد والمحاكاة والتنشئة وأساليب التعلم والتعامل مع المساحة والمكان لمعرفة موقع الفرد وتحريك الجماعة.
الإنسان إذا هو مركز اهتمام العوالم من حولنا في الجنوب وفي الشمال، لكن أين موقع الإنسان والثقافة والتواصل في أولويات اهتمامنا؟
لم أجد هذا الاهتمام في خطاب السياسيين الرسميين الذين يهتمون بالثروة القومية (التي عادة ما تتماهى الفواصل بينها وبين ثرواتهم الشخصية)، ولم أجد هذا الاهتمام في خطاب حركات الإصلاح التي تركز على تغيير معادلات السلطة من دون أن تعطينا بعض المؤشرات على تغير نوعية الحياة التي يعيشها الناس لو جاءت للحكم (اللهم سوى كونها ستجعلهم يواظبون على الصلاة بشكل أقرب للفعل السياسي منه لفعل العبادة)، ولم أجد سؤال البشرية ومعناها في عالم متغير على أجندة البحث العلمي الذي يسعى للحاق بما يقدمه الغرب دون أن يطرح ما يطرحه الغرب من أسئلة وجودية وفلسفية عميقة كالسؤال السابق - بغض النظر عن نوعية الإجابات التي تقدم.
بل لم أجده في الإبداعات الفنية، اللهم إلا القليل من العمل التشكيلي، أما السينما فيشغلها في عالمنا العربي الجنس والفكاهة. وليس الفلسفة والسياسة.
في اليومين الماضيين شاهدت مع طلابي في الجامعة فيلمين كي يكونا مركز النقاش في محاضرات النظرية السياسية التي يحتل تعريف ماهو إنساني فيها مساحة كبيرة، إذ كيف نصوغ نظرية للدولة من دون أن يكون عندنا تصور للإنسان؟ وقد كانت تصورات الإنسان الشرير الذي يحارب من حوله هي منشأ فكرة الدولة فلسفيا عند هوبز، وكذا تصور الإنسان القادر على التفاوض على حريته لكن يحتاج لإطار ينسق هذا التفاوض ليحمي الحرية منطلق ليبرالية جون لوك في نظريته للعقد الاجتماعي. فأي إنسان هو إنسان القرن الواحد والعشرين كي نؤسس له دولة تحميه وتعطيه حريته؟ وهل تؤدي التكنولوجيا لتغير طبيعة الإنسان بسبب وساطة الآلة بينه وبين باقي البشر؟ وماذا عن علاقة الإنسان بالزمن وقد تغير مفهومنا للزمن في ظل الحداثة والسوق الرأس مالي العالمي؟
اخترت للطلاب فيلمي «القصة الغريبة للسيد ينجامين باتون» والتي تحكي عن شخص ولد في جسم كهل، ومع تقدم الأيام يصير شابا ويموت في نهاية عمره طفلا رضيعا، وهي قصة تناقش معنى الزمن، والحوادث، والمسئولية، وما نفعله بأيامنا مع الحياة، لكنها أيضا تناقش فلسفة الموت والحرب.
الفيلم الثاني هو فيلم « الرجل الذي عاش مئتي عام»... والتي تحكي قصة إنسان آلي يتحول عبر العلم إلى ما يشبه الإنسان ويطور قدراته ويسعى في النهاية لأن يكون بشرا ويناضل من أجل اعتراف عالم البشر به وهو القادم من عالم الآلات.
تلك الأسئلة الوجودية العميقة، وأسئلة العدالة الاجتماعية، وأسئلة البحث العلمي عن كيمياء اللغة وفيزياء التواصل هي بعض الأسئلة التي تشغل بال المجتمعات في الغرب والجنوب، وبالطبع تشغل بالهم في الشرق، لكن همومنا مختلفة، وأولوياتنا مختلة، وحالنا لا يخفى على أحد.
لابد للأجيال الجديدة أن تفكر بشكل مختلف، وأن تعرف أسئلة العصر وتسعى لتقديم إجاباتها بعقل نقدي وتفكير حر.
سألت طلابي في الجامعة الأميركية التي أقوم فيها بالتدريس كمحاضر زائر مرتين بالأسبوع عن همومهم، وطلبت منهم أن يكتبوا عن أحلامهم وتجاربهم، هذا طالب مصري يكتب سطرين عن والده رجل الأعمال ومدرسته الأجنبية وحبه للسباحة ورغبته في أن يعمل بوزارة الخارجية بعد تخرجه. طالب آخر كتب عن مشكلته الشخصية في الحصول على ميراث والده بعد وفاته وقد كان رجل أعمال شهير، وكيف أنه يريد أن يكون أديبا عالميا مرموقا وأنه لا يكتب إلا باللغة الإنجليزية!
أحلام مشروعة من يملك أن يصادرها.
لكن دعونا نقارنها بأحلام طالبين أميركيين في نفس الصف من طلاب التبادل الطلابي بالجامعة واللذين جاءت إجابتهما كالتالي.
كتب الأول أنه يستكمل دراسته في تخصص دراسات الشرق الأوسط بعد أن أوقف دراسته ليلتخق بالجيش الأميركي وأنه خدم في مناطق مختلفة منها العراق، وأنه صار يدرك أهمية التعرف على الثقافات الأخرى لترشيد صنع السياسية الخارجية الأميركية، وأنه يأمل أن يكون خبيرا في هذا المجال لتغير الولايات المتحدة من تعاملها مع العالم بما فيه مصلحتها ومصلحة الآخرين معا. أما الثاني فقد ذكر أنه ناشط بجوار الدراسة في حركات السلام والعمل الإغاثي وأنه يأمل في استكمال درساته في مجال القانون الدولي الإنساني، وأن يعمل في النهاية في منظمة دولية في هذا المجال كي يتمكن من تغيير العالم.
ولا تعليق.
هذا المقال عن العوالم الأخرى خارج عالمنا العربي وفيمَ تفكر وماذا تبحث وكيف تحلم؟.
وأعتقد أنه ينبغي أن أتوقف هنا وأترك القراء مع خواطرهم بشأن العنوان... وأن أدعوهم للتفكير في كيفية إنقاذ النائمين وتنبيه الغافلين.
فليس عندي إجابات قاطعة ولا وصفات سحرية.
مازلت أفكر!
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2384 - الإثنين 16 مارس 2009م الموافق 19 ربيع الاول 1430هـ
ازيلوا الغشاوه
نعم هناك غشاوه على الوجوه والقلوب تصدنا نحن جميعا عن الثقافه وعن الانفتاح على الخر وتجعلنا ننظر دائما تحت ارجلنا فهي كحائل بل سورا حديديا مانعا بيننا وبين النهضه فلا يتركونا حتى نحدد مسارنا ونوسع ثقافاتنا بل يغلقوا الابواب ويقيدوا الهمم ببرامج خبيثه على مستوى المجتمع ككل فلا ننتظر الا الجهل والضلال فارحمونا وازيلوا الغشاوه
الطرقات المسدودة
أعذرينا يا دكتورة - الطرق المسدودة فى وجوهنا عبر سنين من التأثير فى الشأن العام - جعلت كل إهتماماتنا تنصب على الشأن الخاص
يقول يوسف زيدان ان الثورة
المصرية فقدت البوصلة لتحديد اتجاهها فلماذا فقدنا البوصلة وهل نحن نمتلك تلك البوصلة بالفعل في ظل هذا النظام التعليمي وكيف نحدد الاتجاه ونحن لا نمتلك الوسيلة او الطريقة