عالم الاتصالات الكندي ولبر شرام، تنبأ قبل أكثر من نصف قرن «بموت الرقيب» عندما قال: «إن العالم يصبح (قرية صغيرة)»، وتحققت نبوءته بثورة الاتصالات قبل دخولنا الألفية الثالثة، ليس على مستوى الإعلام فحسب؛ بل وعولمة كل شيء.
وتماماً، كما كسرت المطبعة التي اخترعها جوتنبرغ في القرن الخامس عشر، احتكار الكنيسة للثقافة في أوروبا بشكل حاسم، عندما طبعت الكتاب المقدس ليقرأه عامة الناس، فإن الفضائيات وثورة المعلومات والاتصالات حطمت وللأبد احتكار السلطات التسلطية لوسائل الإعلام، كما همشت دور الرقيب وأنهت صلاحياته الافتراضية، أو كادت؛ وتسألون كيف؟
والجواب على «كيف؟» هذه لا يحتاج إلى فراسة أو كثير من الذكاء، اللهم إذا كانت وزارات الإعلام وإدارات المطبوعات والنشر والأنظمة التسلطية في وطننا العربي في غيبوبة وتجاوزها الزمن من دون أن تعترف بذلك. فإدارات «المطبوعات والنشر» التي في صلب اهتمامها «تقييد الحريات» والرقابة على الصادر والوارد من الثقافات، باستطاعتها منع دخول «صحيفة أو مجلة أو أية مطبوعة»، وكذا منع عرض فيلم سينمائي وتداول أي كتاب بمفرداتها المعروفة ووصايتها المعهودة باستخدام مفردات عتيقة مثل: «لا يجوز ويعاقب بحسب نصوص القانون»، لكنها لا تستطيع في مقابل ذلك، منع أي مواطن من رؤية أية محطة فضائية، أو أي موقع على الانترنت وتصفح المطبوعات والصحف المصادرة، بما في ذلك المواقع الفاحشة.
قرأت من جديد المرسوم بقانون رقم 47 لسنة 2002 عن المطبوعات والنشر وحاولت إحصاء مفردات مثل «يعاقب عليه القانون»، و«يجوز ولا يجوز»، و«في حدود القانون»، أو «بما يتفق مع القانون أو بالشروط التي يحددها القانون»، وأعترف بعجزي الشديد لإعطاء رقم محدد لمثل هذه المفردات، في حين تنص بعض المواد على «حرية الرأي وحرية الصحافة»، و«حق الوصول إلى المعلومات» من دون إسهاب.
المواد المقيدة للحريات في هذا القانون نسخة طبق الأصل لقانون العقوبات الصادر في العام 1976 بمواده التعسفية الخاصة بحرية الرأي والتعبير ومنها المواد حسب التسلسل: (166، 167، 186، 169، 170، 171، 172، 173، 174، 175، 176، 177، 214، 215، 216، 217 و218) ولا تخلو مادة واحدة تقريباً من كلمة «يعاقب بالسجن أو بالغرامة أو كليهما» في مقدمتها أو مؤخرتها.
لقد صدر قانون العقوبات بعد عام من حل المجلس الوطني (1975) وفي غيابه، ومن المفترض أن يكون «قانون مؤقت» على أساس عرضه على المجلس في أول اجتماع يعقده لتشريعه؛ وها قد مر 28 عاماً من دون ذلك، فيما يحاكم معتقلو الضمير على أساسه، وضمن مواده، ويجرر الصحافيون ورؤساء التحرير ويحاكمون ضمن سلسلة من تعقيدات المواد في مرسوم بقانون المطبوعات المتفرع من قانون العقوبات وحلقاته المتراصة التي «تجيز حرية التعبير وتقمعها في آنٍ واحد، وقت ما تشاء على خلفية مقاسات جاهزة معروفة للبيب»!
قانون المطبوعات، وكذا قانون العقوبات، لن يحصلا على «قوة القانون» إلا بعد أن يمرا بالطرق التي عيّنها الدستور لإقرارهما، وأنهما لم يأخذا مشروعيتهما بعد، فكيف تجيز المحاكم تطبيقيهما على رغم اللغط والجدل المثار بشأنهما؟
وبحسب هذا القانون الخارج من رحم قانون أمن الدولة، يتم تصنيف الصحافيين والأفراد وتنتهك حقوقهم البسيطة المنصوص عليها في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على أن «لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء من دون تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت، من دون تقيد بالحدود الجغرافية».
ما يعنينا في هذا المقام، المادة 167 - 3 في قانون العقوبات التي تنص على أنه «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبالغرامة التي لا تجاوز مئتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين من أذاع عمداً أخباراً أو بيانات أو إشاعة كاذبة أو مغرضة أو بث دعايات مثيرة، إذا كان من شأن ذلك اضطراب الأمن العام أو إلقاء الرعب بين الناس أو إلحاق الضرر بالمصلحة العامة». ويعاقب بهذه العقوبة من حاز بالذات أو بالواسطة أو أحرز محرراً أو مطبوعاً يتضمن شيئاً مما نص عليه في الفقرة السابقة من دون سبب مشروع، ومن حاز أية وسيلة من وسائل الطبع أو التسجيل أو العلانية مخصصة، ولو بصفة وقتية، لطبع أو تسجيل أو إذاعة شيء مما ذكر.
خطورة هذه المادة التي لا تتلاءم وعهد الإصلاحات، ولا تتلاءم مع العصر وثورة المعلومات والاتصالات، إنها تعرّض أي مواطن يملك جهاز كمبيوتر أو لا يملك، لهذه العقوبة، وأعتقد في حال تطبيق هذه المادة القادمة من عصر الظلام، فإن سجون البحرين لن تتسع لزوارها، بما فيهم المسئولون هذه المرة، ففي كل مداهمة سيحصل زوار الليل على أشياء تدين بيتي (بيتك) بيوتنا
العدد 815 - الأحد 28 نوفمبر 2004م الموافق 15 شوال 1425هـ