اقدام البرلمان الاوكراني على تبني قرار يعترف بوجود عمليات تزوير خلال الانتخابات الرئاسية التي جرت في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري وحل اللجنة الانتخابية المركزية التي اشرفت على الجولة الثانية من الاقتراع الشعبي، يعني سياسياً إعادة انتاج الازمة وبداية تراجع للموقف الروسي بعد هجوم ثنائي مكثف خاضه الاتحاد الاوروبي بدعم من الولايات المتحدة.
إعادة انتاج الازمة هو عنوان الاصطراع الداخلي الذي نشب على خلفية صناديق الاقتراع. فاوكرانيا الآن دخلت في مرحلة التوازن في القوة وهي تعني تعطيل السلطة المركزية وشل دور المؤسسات بانتظار الاتفاق على صيغة بديلة. والانتظار يعني المزيد من التأزم حتى تتضح صورة الموقف وتخرج الاطراف المعنية بالازمة بصيغة لا غالب ولا مغلوب او بغالب ومغلوب. وفي الحالين هناك قوى شعبية متضررة ترى ان الانتصار سرق منها او ان هناك هزيمة غير عادلة الحقت بها بسبب وجود قوة دولية عندها القدرة على التدخل والتحريك مقابل قوة دولية تعوزها الخبرة ومترددة في حسم خياراتها السياسية.
الانتخابات الاوكرانية كانت مناسبة لاختبار القوة. والتداعيات كشفت حتى الآن عن قدرات تدخلية هائلة تملكها الولايات المتحدة في حال قررت التعاون مع الاتحاد الاوروبي. وهذه القدرات امتحنت نفسها في اكثر من مكان ونجحت ولكنها هذه المرة اظهرت على المستوى العالمي امكانات غير متوقعة في تعديل المعادلات من دون تدخل عسكري مباشر. وفي حال نجح التعاون الاميركي - الاوروبي في التجربة الاوكرانية فإن النتيجة ستترتب عليها مجموعة دروس ابرزها اعطاء صفة شرعية للتدخل الدولي في شئون محلية. وهذا ما تريد واشنطن تمريره بسرعة لتبرير خلافها السابق مع الاتحاد الأوروبي بشأن حربها العدوانية على العراق.
التوافق الاميركي - الاوروبي بشأن الانتخابات الاوكرانية وتراجع موسكو واحتمال نجاح الخارج في تعديل موازين قوى داخلية... كلها امور خطيرة قد تؤدي إلى تأسيس سياسة دولية جديدة تعطي الحق للدول الكبرى في تغيير معادلات سياسية على الأرض ومن دون حاجة إلى استخدام القوة العسكرية كما حصل في مسألة العراق.
المفاجأة في الموضوع هي الموقف الروسي الذي اظهر عدم حزم في الدفاع عن مصالحه وفتح الابواب امام هجوم لن يتوقف في اوكرانيا في حال قيض للتحالف الثنائي الاوروبي - الاميركي كسر قرار الحكومة الاوكرانية.
فالهجوم في النهاية لن يكتفي بالحد الادنى بل انه سيستخدم الانتصار الاوكراني والبناء عليه لإعادة تطوير الهجوم والاندفاع مجددا نحو الصراع على البحر الاسود. الصراع على البحر الأسود هو عنوان المرحلة المقبلة في حال توصل التحالف الثنائي إلى إعادة انتاج الازمة الاوكرانية في صيغة روسية معدلة ومنقحة. ومركز الصراع على البحر الاسود سيكون شبه جزيرة القرم. فالسيطرة على القرم كان مجال الصراع الدولي في البحر الأسود بين السلطنة العثمانية والقيصرية الروسية وبريطانيا في القرن التاسع عشر. وهناك خاضت روسيا القيصرية معارك ضارية بشأنها مع السلطنة ما ادى إلى تدخل بريطانيا لمصلحة العثمانيين وهزيمة موسكو في «حرب القرم».
القرم تعتبر منطقة حيوية لروسيا وتقع الآن في الشطر الشرقي الموالي لموسكو وتتخد منها المقر العام للاسطول الروسي في البحر الأسود، كذلك يقع فيها ميناء اوديسا الذي مدت إليه موسكو خط انابيب لتصدير نفطها منه لقطع الطريق على تمديدات نفط بحر قزوين من الجانب التركي.
المسألة ليست «صناديق اقتراع» وانما هي محاولة لكسر معادلة القوة في دائرة تعتبر منطقة حيوية عسكرياً واقتصادياً لروسيا. ولذلك يحتمل ان تتمسك موسكو بمصالحها ومواقع نفوذها ولا تفرط باوكرانيا كما حصل في مسألة جورجيا.
إعادة انتاج الازمة بعد قرار البرلمان يضع مصير الدولة الاوكرانية امام منعطف تاريخي يهدد وحدة البلاد واحتمال انشطارها بين شرقية وغربية. فشرق اوكرانيا مؤيد لروسيا ويقع على البحر الاسود وتسكنه غالبية روسية تنطق لغتها، وغربها مؤيد للغرب وغالبية سكانه تنطق الاوكرانية. هناك اذاً ما يشبه الفرز السكاني - السياسي في جغرافية الدولة، وهذا يزيد من احتمالات انقسامها الاهلي وانفكاك الوحدة الى شطرين غربي وشرقي.
مسألة الانتخابات الأوكرانية دخلت في منعطف سياسي خطير ونجحت أوروبا وأميركا في تدويلها واستخدامها وسيلة للضغط على موسكو في الشارع من خلال صناديق الاقتراع. فهذه العلاقات المتوترة في حسابات القوة سترسم شخصية جديدة للقارة تنهض على انقاض مخلفات الماضي أطلق عليها «المعسكر الاشتراكي»... وها هو المعسكر الآن يتحول إلى أدوات حرب ضد موسكو. فأوكرانيا هي مجرد مخفر متقدم سيستخدم مستقبلاً للزحف باتجاه الكرملين
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 815 - الأحد 28 نوفمبر 2004م الموافق 15 شوال 1425هـ