العدد 814 - السبت 27 نوفمبر 2004م الموافق 14 شوال 1425هـ

العقدية في الحريات... خطأ حرف مسار البشرية

عيسى مكي عبدالله comments [at] alwasatnews.com

لا أدري ما نوع تلك السكرة وما ذلك الاعتباط الذي يقع الفكر البشري في مستنقعه ثم لا يصحو. أليست الحرية فطرة في هذا الكائن الخطَّاء، أليس الرأي والكلمة والمشي والسؤال والتلاقي والبيع والشراء وأشباهها شرعية لا تحتاج إلى تشريع؟ بل إن الحديث عن مشروعيتها هو الأمر الذي يحتاج إلى مشروعية، وبعبارة أوضح الحريات لا تحتاج إلى تعاقد سواء كان دستورياً أو غير ذلك، نعم تحتاج إلى تنظيم دستوري وممارسة.

ولعل جان روسو اقترب من هذا المعنى للعقدية حين اعتبره عامل تناظم متبادل، أما ما تقوله معاجم الاصطلاح القانوني وما يقوله المهووسون بها على أن العقد الاجتماعي/ السياسي هو توافق مجتمع معين على الميثاق أو الدستور المفضي إلى كيان مستقل (دولة)، فهو مفهوم أقرب إلى الخلط ومخالفة الطبيعة الإنسانية، إذ إن العقد الاجتماعي/ السياسي مرتكز على (التوافق عند المجتمع) على أركان ومبادئ وقيم الحياة الاجتماعية في حد جغرافي ما (الوطن)، فإن هذا المفهوم يعاني أكثر من مشكلة:

الأولى: شرعية استعمال التوافق والتعاقد لتحديد ترجمة فلسفية وقانونية للحياة اليومية الإنسانية، وهل يملك هذا المفهوم من السعة والشمول لنظم القوانين وإحلال العدالة الاجتماعية؟ فالتعاقد والتبادل بين الأطراف يجري على أساس القدرة والملكية ولا يمكن أبداً تصنيف الحريات من الملكيات أو القدرات المخصوصة بل هي ملك الحياة وملك البشرية.

الثاني: حينما كان التعاقد لا يقوم إلا بأطراف متعددة، وهذه الأطراف كونها متساوية في الإنسانية حياة واحتياجا واستمرارا، فإما أن تكون أحقية التشريع للجميع أو لا تكون لأحد! وإن عدنا مرة أخرى للتوافق أو المشورة أو الانتخاب بالغالبية لترشيح (المشرع/ المشرعين) فإنها كلها لا تسد فراغ الكمالات البشرية ولا تعوض النقص الطبيعي في أي طرف من الأطراف ولا تمنحه مائزا للتشريع. لذلك تبقى جميع الأطراف في الدرجة نفسها من الإنسانية والدرجة الاجتماعية فيلزم التداول في التشريع وعليه تلزم حتمية التغير المستمر وسقوط التشريع في الأخير. ومن هنا أدخل المفهومان (التعاقد والتوافق) معهما مشكلة ليس من السهل تفكيكها إلا بمراجعة تاريخ تخلق العقدية الدستورية، ولكن الواضح منها باختصار هو إسقاط مبدأ التساوي بين البشرية ودسترة الحياة وفقا لذلك ما يفضي إلى ملكية السلطات - الجهات الحاكمة - أيا كانت للحريات وقدرتها عليها، وهنا تكمن خطورة المفهوم.

ثالثا: وإن صح التعاقد في بعض أمور الحياة كأن نتعاقد في نوع البضاعة ومواصفاتها وثمنها، ولكن لا يمكن إجراء التعاقد مهما يكن على مشروعية الشراء ومشروعية البيع نفسه ولا يمكن التعاقد في أمثاله من المشي والتعبير عن الرأي لأنها كلها أملاك الحياة والإنسانية، بل لو سلبت من الحياة كانت الحياة شيئا آخر غير الحياة. فكيف يمكن أن تكون الدستاتير كلها عقدية وبشكل مطلق؟

ويصح قانونياً وإنسانياً إطلاق العقدية على استئجار إنسان لعمل شريف ما في وقت ما، ويعتبر استئجار موقفه أو رأيه من الأعمال المخالفة لأبسط القيم الإنسانية البديهية والمدمرة للحريات الطبيعية، ولو كان ذلك عن طريق التوافق والتعاقد المتبادل. والنتيجة أنه لا يمكن أن تكون العقدية مطلقة في جميع شئون الإنسان.

رابعاً: ومن مساوئ العقدية في شكلها الآنف الذكر ظهور جماعات غير متوافقة وعبر عنها (بالأقليات) ولم يكن من الممكن وفقا للعقدية الاجتماعية، والتوافق الجماعي القفز على طرف غير متوافق فهو استلاب وتهميش ومصادرة.

ولم يتوافر أمام هذه الحال إلا أن يظهر مفهوم (الغالبية أو الإجماع) ليحل محل العقدية الاجتماعية شيئاً فشيئاً في الحياة السياسية والاجتماعية.

الأكثرية/ الإجماع، مفهومان لهما قوة الهيمنة وقوة الإسقاط والتهميش، كما لهما قوة العدالة والاحترام، فحينما تكون الأكثرية الحاكمة غير عادلة وانتهازية فإن التشريع يتعلق بمبادئ تلك الأكثرية، كما هو لو كانت الأكثرية عادلة كان التشريع متعلقا بمبادئ الأكثرية العادلة، وهذا تسفيه للحياة الإنسانية وإقرار باللاقيمية وسقوط لكل المبادئ الأصيلة والطبيعية للإنسان والحياة.

أما الإشكال الحقيقي هو إنزال وثيقة الحقوق تلك لمرتبة العقدية وتسميته بكونه عقداً دستورياً، فالأزمة هنا أزمة مفهوم ولغة وثقافة، فمجموعة الحقوق والحريات مسائل طبيعية وفطرية، لا يمكن التعاقد على أساسها بين الأطراف. نعم، لو كان الشعب بالاعتبار السائد في القرون الأوروبية السحيقة كعبيد أو رقيق لدى تاجر ما وملك ما ومتأله ما، لصحّ إطلاق العقدية على ذلك الدستور وتلك الوثيقة إلى حد ما، ولكنها كما عبّر روسو وثيقة تناظم متبادل، قانون حقوق الحياة كما تصفه الحياة وكما تصونه الحياة، بين إنسان في دور الحاكم وإنسان يمارس إنسانيته من أجل الحياة. وعلى رغم ما نقدره من خطورة هذا الكلام فإن الاعتماد على ذلك المفهوم في تأسيس دولة دستورية تحمي الحريات أكثر خطورة بل نقطة تخلف إنساني وحضاري، فهي ترسيخ للطبقية المنظمة والاحتكارية السياسية والمالية.

وإني أدعو صادقاً للتأمل في نتائج التعاطي مع هذه المفاهيم التي نخمن وبجدية إلى أين ستسير بالإنسان قبل نهاية العالم، وندعو إلى دراسة تحليلية موضوعية متزنة لتاريخ نشوء العقدية الدستورية وما صاحبها من تداعيات إنسانية وحضارية. كما أدعو إلى مراجعة أسس وقيم الحياة الجماعية وتشكيلها من جديد وفقا لأصالة الحياة والحقوق وفطرية الحريات وتساوي جميع أفراد البشر

العدد 814 - السبت 27 نوفمبر 2004م الموافق 14 شوال 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً