العدد 814 - السبت 27 نوفمبر 2004م الموافق 14 شوال 1425هـ

تعاليم التوراة بوصفها مالاً وآلة

الصقور الأميركية المحافظة... والمتدينة

عادل مرزوق Adel.Marzooq [at] alwasatnews.com

-

«كيف يصنف البعض الولايات المتحدة بأنها بلد علماني، وشعبها مؤمن بأن الله من يعطيهم القوة وان قوة إلهية خاصة هي من ترعاهم»؟

الباحث المشتغل بماهية التدين الأميركي طارق متري، يكشف عن صراعات التدين والدين لدى المواطن الأميركي ويحاول استخراج تلك النقاط الرئيسية في تكونه الديني، ويقوم بربطها مباشرة مع المواقف الإجرائية لهذا التدين العاطفي، إنه يأتي على ذكر الدين في الولايات المتحدة بما يصفه دينا مدنيا، ويحاول توصيف هذا الدين المدني وشرح فلسفته واكتشاف مرتكزاته.

إنها الدولة التي جاءت نتاج مجتمع، وليست مجتمعاً صنعته دولة، معركة «هرمغدون» بين الخير والشر، والقول ان «من ليس معنا هو ضدنا»، طابع البداية والنهاية بسطور من الكتاب المقدس من دون الإشارة الواضحة لذلك، يبدو جميعه كأنه تبشير توراتي، تباشير توراتية مستقاة من الإنجيليين المسيطرين على الأعالي المهيمنة في الهرم السياسي الأميركي، التجربة الأميركية خرجت متدينة مؤمنة، قائمة على قوى دينية متحررة التقاليد، هنا حينما نحلل الولايات المتحدة، فنحن وللمرة الأولى حضاريا نناقش تكتلا اجتماعيا كان جاهزا للتشكل والتكون حتى قبل ظهور الدولة نفسها وتوحدها.

التجربة الأميركية تجربة لم تخضع لإشكالات الثورات الأوروبية، لم تكن أميركا بحاجة الى فصل الدين عن السياسة، بل إنها صنفت الدين على انه شأن اجتماعي منذ بداية التأسيس، لذلك لم يكن الدين بالنسبة إليها عائقا أو محل حوار أو صراع، كانت نتائج الأوروبيين وثوراتهم حاضرة من دون الحاجة الى حروب دينية أو الى مهاجمة القسيسين والرهبان. التجربة الأميركية نعمت بنتائج الثورات الأوروبية إلا انها لم تدخل صراعات ما لتنال هذه النتائج.

أمة الله الليبرالية!

تشير الإحصاءات الى أن نسبة المؤمنين بالله من الأميركيين تصل الى 90 في المئة، 40 في المئة منهم يرتادون الكنائس بانتظام، المثير هو ذلك الإيمان المتأصل لدى الأميركيين بأن بلدهم محفوظ بقدرة إلهية خاصة. 58 في المئة من الأميركيين يقولون إن الولايات المتحدة الاميركية تتمتع بحماية إلهية خاصة. إنه وطن الخلاص للبشرية، إنه وطن النهوض بالإنسان ليحقق تطلعاته، إنها أرض الله التي سيعرف الإنسان فيها واجبه وحريته وسيعرف بالتأكيد إنسانيته.

يصف طارق متري التجربة الدينية الأميركية بأنها حال من الاعتقاد والتفاعل مع «الدين المدني»، يقول: «ان الدين المدني هو دين عام يرتبط ظهوره بالحياة السياسية وهو مواز للدين المنظم من غير ان يكون بديلاً عنه. وهو مزيج خاص بين المثل المسيحية والقيم الإنسانية العلمانية تكشف عن لغة الاميركيين عند الحديث عن الشئون العامة وايحاءات المشتغلين بالسياسة».

المتدينون الأميركيون ابتكروا ما يسمى بـ «الدين المدني»، وإن كانت تعاليمه وقيمه مسيحية إلا انه ليس المسيحية ذاتها، وإذا كان الرؤساء الاميركيون يذكرون الله، فانهم لا يذكرون المسيح ابداً، الدين المدني هو إله النظام والقانون والحقوق لا إله الخلاص والمحبة. هو دين اخلاقي واجتماعي وليس تأملياً أو لاهوتياً او روحياً. فهو جديد وأميركي. ويبقى شاغله الأول ان تكون اميركا منسجمة مع ارادة الله. إن الأميركيين لهم حال إيمان غريبة، هي بطبيعة الحال مفبركة، لكنها مقنعة بالنسبة إليهم. إنهم مؤمنون بأن جميع خيارات أمتهم هي خيارات ربانية، وأن الله يباركهم في كل خطوة او قرار يتخذونه. فقط الأميركيون حين يقتلون، يكون الله قد أراد القتل وجعله مباحا، وجعل فيه إنقاذا لحياة الأمة وسبباً لازدهار العالم ورُقيه.

في الولايات المتحدة التي يصل تعداد سكانها الى 270 مليون نسمة، تعدد رهيب في الاديان والطوائف، يثير مخاوف من احتمال نشوء صراع طائفي في أية لحظة من اللحظات. إلا ان هذا ما لا يحصل، إذ تقول بعض الاستطلاعات ان 140 مليونا فقط هم اعضاء في جماعات دينية، بينهم 66 مليوناً بروتستانتي و62 مليوناً كاثوليكي و6 ملايين يهودي و4 ملايين من المورمن، بالاضافة الى المسيحيين الارثوذكس والمسلمين... وترفع بعض الاستطلاعات عدد البروتستانت الى 80 مليونا منقسمين بالتساوي الى الخط الرئيسي من جهة، والانجيليين المحافظين من جهة اخرى، إلا أن كل هذه التعدديات انصهرت داخل الدين المدني الأميركي، كل هذه الانقسامات انصهرت داخل بوتقة الدين الجديد، كان الله لكل فئة مختلفاً عن الآخر، إلا أن جميع الآلهة تحب أميركا، وتبارك الولايات المتحدة.

«المحافظون الجدد» ، «الصقور الجدد»، «المسيطرون على الأعالي المهيمنة للسياسات الأميركية، والعاملون بمكتب نائب الرئيس ديك تشيني، من أين دخلوا السياسة، ومتى؟ ولماذا ارتبطوا بالسياسيين الجمهورين؟ يرتبط المحافظون المتدينيون بالتيار الجمهوري منذ عهد رونالد ريغان على استحياء ومنذ جورج بوش عبر تحالف واضح وصريح، والتيار الانجيلي المحافظ ما انفك يتنامى منذ أواسط القرن العشرين، الا ان حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 أحضرت الخطاب الديني المحافظ في الحياة العامة واعطت فرصة اضافية لهذا التيار ليسمع صوته ويتدخل في شئون السياسة، وتصوير اميركا بصورة الضحية. ما يجهله الكثير هو ان هذا التيار ليس مرحباً به في تجمعات اليهود، بل إنه تمادى في الإعلان غير الصريح عن معارضته لليهود. وكانت آخر رسائل هذا التيار الى الرئيس بوش تحتوي تحذيراً من تهويد القدس وفلسطين، ومطالبة بمراعاة وضرورة بقاء الوجود المسيحي في فلسطين قاطبة.

هذا التيار الآخذ في التزايد والقوة والسيطرة، لابد ان نحاول اكتشافه أكثر وأكثر، إذ إن السياسة الأميركية أصبحت رهينة القرار السياسي لهذا التيار بقوة، إلا أن هذا التيار المتدين لا يدير عملياته من الكنائس، وليست له نصوص توراتية خاصة يحاول تحقيقها، إنه تدين الصناعة، تدين الآلات والمال.

لكن لماذا ينشط هذا التيار في ظل وجود الدين المدني؟ لابد ان نعي ان التشكل الثقافي الأميركي أخذ بالتقادم، وانها (أميركا) بدأت تصنع تاريخها القديم، لم تعد حجة «اميركا بلا تاريخ» موضوعية، فهذه البلاد أصبحت لديها الكثير من الرموز الثقافية البعيدة والآسنة. وكما هي الحضارات تعاني عبر تقادمها من إشكالية الجديد، فإن اميركا أصيبت بهذا الداء، وهو انها أصبحت تحاول كبح الخطوات المتسابقة إلى الأمام، تحاول صناعة وإنتاج ضبط اجتماعي لمجتمعها الذي بات غير مقتنع بعمليات إدارة العقول التي يتعرض لها. أصبح هو من يقوم بدور الضبط للدولة من دون ان تدري

إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"

العدد 814 - السبت 27 نوفمبر 2004م الموافق 14 شوال 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً