أشار الباحث والمترجم البحريني محمد علي الخزاعي - في مقدمة الكتاب الذي قام بترجمته عن «بيتر كورنوول» وهو بعنوان «دلمون. .. تاريخ البحرين في العصور القديمة» - الى أهمية هذا الكتاب، حين أبان أن هذا الكتاب ترجمة لبحث قدمه كورنوول وعكف على اعداده قبل حوالي ستة عقود، ونال عليه درجة الدكتوراه من دائرة التاريخ بجامعة هارفارد الأميركية. وتكمن أهميته في كونه أول أطروحة علمية عن البحرين بحسب اعتقاد الخزاعي، وفي محاولته اثبات أن حضارة دلمون القديمة التي تعود الى حوالي خمسة آلاف عام قبل الآن كان مركزها جزيرة البحرين أو كبرى جزر مملكة البحرين الحالية. فكما كان اقليم البحرين يشمل المنطقة الساحلية للجزيرة العربية الممتدة من جنوب العراق حتى عمان كذلك كان اقليم دلمون مشابها له في امتداده. ولعل هذا الاقليم تطور على مر العصور ليعرف باقليم البحرين في صدر الاسلام وبداية قيام الدولة العربية الاسلامية والخلافات المتعاقبة في تاريخها الطويل. وأوضح الخزاعي سبب اختيار المؤلف لعنوان كتابه، وتصرف المترجم في عنوان الكتاب بقوله ان بيتر كورنوول كعادة الأكاديميين اختار لكتابه عنوانا يتسم بالاثارة وهو «دلمون... تاريخ جزيرة البحرين قبل قورش»، والمعروف أن قورش هذا كان أحد أباطرة الفرس في الألفية الثالثة قبل ميلاد السيد المسيح «ع» وقد اختار كورنوول هذا العنوان للتدليل على تلك الفترة القديمة، لذلك فعندما عمد المترجم الى هذه الترجمة وجد أنه من الأفضل استبداله بعنوان يحمل المعنى نفسه، وهو «دلمون... تاريخ البحرين في العصور القديمة» حين وجده يرمي الى الغرض نفسه الذي قصده المؤلف وخصوصا أن الكتاب لا يتعرض لقورش وعلاقة بلاده بدلمون في تلك الفترة. وذكر الخزاعي - مترجم الكتاب - أن دلمون كانت منذ القدم مركزا اكتسب أهمية استراتيجية بسبب موقعه في منتصف الخليج، لتكون حلقة وصل أو ميناء آمنا لرسو السفن في طريقها من بلاد وادي السند «ملوها أوملوخا» وساحل عمان «ماجلان» الى بلاد ما بين النهرين. وكانت الجزيرة جنة خضراء لكثرة عيونها ومياهها العذبة الطبيعية ما جعلها نهبا للطامعين من الدول الكبرى في قديم الزمان. ولعل الدور الذي لعبته دلمون في الأساس كان دورا تجاريا يتمثل في القيام باستيراد المواد الخام كالنحاس والصخور والأخشاب وغيرها من السلع واعادة تصديرها الى بلاد ما بين النهرين التي كانت بحاجة ماسة اليها كما تبين ذلك السجلات المسمارية القديمة، اذ قام كورنول باثبات أوجه الشبه بين دلمون القديمة والبحرين الحديثة، ليؤكد ان دلمون ما هي إلا هذه الجزيرة التي اتخذت تسمية كلاسيكية عندما أطلق اليونانيون عليها «تايلوس» التي كانت تحريفا لدلمون أو «تلمون» كما كانت تكتب في بعض الأحيان. كما أوضح أن دلمون منذ قديم الزمان كانت دولة مستقلة، وربما بسبب صغر حجمها كان حكامها يدفعون الجزية للدول الكبرى في المنطقة حفاظا على سلامة الجزيرة. و لا تورد لنا المصادر التاريخية والأثرية وثائق وسجلات مكتوبة لنعرف اللغة التي كانت سائدة آنذاك. وغالبية الظن أن الدلمونيين كانوا امتدادا للجنس البشري الأول الذي كان يقطن الساحل الشرقي من الجزيرة العربية، ولا نعلم بأية لغة كان يتخاطب هذا الجنس أو بأي نوع من الكتابة كان يكتب، اذ إن المنقبين وعلماء الآثار لم يتمكنوا من العثور على أية ألواح منقوشة تشير الى طبيعة الكتابة المستخدمة. وغالبية ظننا أن حضارة دلمون كانت في مرحلة متقدمة من مراحل التاريخ البدائي للبشرية، وبالتالي لم يكن سكانها على علم ودراية بلغة من اللغات السائدة ونوعية خطها في ذلك الزمان كالخط المسماري المستخدم في وادي الرافدين أو اللغة المصرية القديمة وخطها الهيروغليفي الذي كانت مصر الفرعونية تستخدمه في وادي النيل. ولكن دلمون - كما أكد ذلك «كورنوول»- كانت ترد في الكتابات المسمارية والألواح المنقوشة وكذلك في الأساطير والملاحم الشعبية. ففي نص «لانجدون» عن أسطورة الخلق وفي ملحمة جلجامش تصور دلمون على أنها فردوس من الفراديس، وأرض خلود يسعى جاجامش الى الوصول اليها بحثا عن زهرة الخلود. وليس هناك من شك في أن لمخيلة الشعراء الخصبة ومبالغاتهم أثر في تكريس هذه الصورة الخيالية عن هذه الجزيرة التي ألهبت مخيلتهم. فوفرة مياهها وينابيعها الطبيعية جعلت منها جنة الخلد الأولى. كما أورد كورنوول - الذي يعتبر من أوائل المنقبين الذين قاموا بالتنقيب في المدافن التلية - وصفا مفصلا لها ولمحتوياتها. والغريب في الأمر أن حضارة دلمون لم تخلف لنا سوى مدافنها المقببة الكثيرة وما اكتشف من معابدها القليلة كمعبد باربار وما يعتقد أنه قصر ملكي في موقع قلعة البحرين. أما مساكن الناس فلا أثر يذكر عن وجودها. وربما كان مرد ذلك الى أن غالبية الناس كانت تمتهن الزراعة وصيد الأسماك، وكانت تسكن في بيوت صنعت من سعف النخيل التي وفرتها طبيعة الجزيرة المشهورة بكثرة بساتين النخيل. ولعل آثار هذه الجزيرة المتمثلة في مواقع المدافن التلية والمستوطنات المرتبطة بها هو كل ما تبقى منها تخليدا للموتى. وما يقوم به المنقبون من أعمال للتنقيب والكشف عن محتوياتها تنبؤنا بجديد عن تلك الحضارة وطريقة حياة أفرادها ومعتقداتهم. وانقسم بحث «كورنوول» الى مقدمة كانت بمثابة الفصل الأول من الكتاب وتناول فيها البحرين: الجيولوجيا، الطوبوغرافيا والمناخ، وأوجه الشبه بين دلمون والبحرين والبحوث والتنقيبات السابقة بهذا الخصوص. أما في الفصل الثاني فتناول دلمون في العصور القديمة: العلاقات السومرية والآكادية مع البحرين ودلمون في الأساطير والديانة السومرية. وفي الفصل الثالث كانت هناك اشارة الى انحسار الـتأثير السومري ومطالب آشور بالسيادة. بينما تحدث المؤلف في الفصل الرابع عن تاريخ دلمون في النصف الأول من الألفية الأولى قبل الميلاد وعن دلمون والسيطرة الآشورية ودلمون والسيطرة النيو- بابلية. وفي الفصل الخامس انصب الحديث على القبور التلية وبنائها مع وصف لها وذكر للأشياء التي تم العثور عليها في غرف القبور وكذلك النشاطات التجارية والدلمونيين وحكومتهم مع حديث مهم عن ديانة دلمون. أما الفصل السادس وهو الفصل الأخير من الكتاب فأفرده الباحث لدور دلمون في التاريخ القديم. وفي هذا الصدد ذكر أن دلمون أول جزيرة يرد لها ذكر في السجلات التاريخية. وليس لدينا علم في فجر الحضارة البشرية، فيما اذا كان أولئك السومريون الموهوبون قد قدموا شمالا الى دلمون في طريقهم الى وادي دجلة والفرات، لكننا ندرك أن الجزيرة وسكانها كانوا ذوي قيمة دائمة في تطور التجارة البحرية القديمة. ومن البين تماما أن دلمون كانت مركزا حيويا عند تقاطع الطرق في الشرق الأدنى وأنها كانت نقطة تجمع للتجار والسفن من مختلف البلاد. وخلص كورنوول في نهاية بحثه الى القول بأن دلمون كانت ذات قيمة كمركز تجاري وميناء؛ ومن خلالها لم تعبر البضائع التجارية فحسب وانما عبرت الأفكار أيضا. لقد كانت حلقة وصل بين الكثير من الشعوب القديمة، ولهذا لابد من أن يكون لها فضل في قيامها بدور ليس بالقليل في نشر الحضارة في منطقة الشرق الأدنى القديمة
العدد 813 - الجمعة 26 نوفمبر 2004م الموافق 13 شوال 1425هـ