آثارنا اليوم تقاتل من أجل البقاء. .. تقاتل من أجل وقف الزحف العمراني وإزالتها وتدميرها أملا في إرضاء المصالح الشخصية أو المشروعات القصيرة الأجل في مقابل تراث ضخم لا يمكن تعويضه بثمن أو استنساخه إن ضاع... كل ذلك بسبب الطمع وقلة الوعي والجهل بقيمة التاريخ. فآثارنا لاتزال تنبئنا بما هو جديد في قديمنا بل وكتاب يحتاج الى المزيد من البحث والتقصي والدراسة الدقيقة لكشف خبايا حياة الأقدمين... وكيف كانت الى القواعد التي أرسوا عليها من أجل البقاء. وما تتعرض له آثارنا منذ سنوات ان لم يكن يوميا من طمس وتشويه لا يتناغم مع المرسوم الأميري الذي صدر في العام 1995 بشأن حماية الآثار... فما قبل وبعد ذلك التاريخ لم يحرك أي ساكن سوى المساعي الحثيثة والصادقة التي جاءت من بعض المهتمين في فترات سابقة. وأخرى جاءت منذ عامين فقط من قبل علماء الآثار الفرنسيين مع مجموعة مخلصة من أهل البحرين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من آثار مثل موقع قلعة البحرين. فالقلعة تعد أحد أهم المواقع الفريدة في العالم نظرا لكونها تحتضن عدة مراحل تاريخية في موقع واحد وهو شيء نادر الحدوث بالعادة كما ذكره أكثر من عالم وباحث في كتبهم ودراساتهم التي تحدثت عن تاريخ البحرين والجزيرة العربية. ومن منطلق الحفاظ على الآثار الانسانية القديمة كونها واجهة من واجهات أرض البحرين في الشأن الانساني وجزءا لا يتجزأ من التراث العالمي فلابد ان تسير المساعى نحو تحقيق الشروط اللازمة لتسجيل الموقع ضمن قائمة التراث الانساني التابعة لمنظمة اليونسكو كالالتزام بالقوانين واللوائح التي يجب ان يلتزم بها ملاك الأراضي ومنع بناء اية واجهات اسمنتية تغطي على الموقع معززة بذلك بالحزام الأخضر. حتى يتسنى للعالم ان يرى وجها آخر للبحرين وللخليج وكيف حيا أهل هذه المنطقة قبل آلاف السنين وكيف كانت عطاءاتهم الممتدة الى خارج حدودهم الجغرافية قبل اكتشاف النفط وغيره. «الوسط» حاورت خبير الآثار الفرنسي بيير لومبارد في حديث خاص ذي شجون عن المكتشفات والحقائق الأثرية في البحرين والقلعة تحديدا الى دور البعثة الفرنسية منذ نهاية السبعينات وحتى اليوم ومساعيهم الجادة بالمحافظة على إرث القلعة وقيمتها لتاريخ الانسانية ولأهل البحرين الذين لايزال البعض منهم لا يعرف قيمتها. وهذا نص الحوار: ما مدى أهمية موقع قلعة البحرين للتاريخ الانساني؟ - الأهمية تكمن في ان الموقع هو الوحيد في الخليج والجزيرة العربية الذي يضم أكثر من مرحلة تاريخية وأكثر من قلعة في موقع واحد وهو فريد من نوعه. فبعضها قد بني على أنقاض مباني الفترات الدلمونية الثلاث والفترة التايلوسية التي لايزال يتدارسها الباحثون على أنها حقبة واحدة نظرا لقلة الأبحاث العلمية في هذا الجانب. لكن مع مرور الزمن فقد غطت المباني بكثبان الرمال حتى بدت كتلة من الرمال مشكلة على هيئة تل كبير غير مكتشفة لكن شيدت عليها جدران قلاع أخرى على أنقاض قلاع قديمة يعود بعضها إلى فترات تنتمي إلى حقبة الساسانيين التي ترامت امبراطوريتهم من بلاد فارس الى الخليج بما في ذلك جزيرة البحرين وما توالت من بعدها من حقب أخرى كالفترات الإسلامية ووصولا الى حقبة البرتغاليين الذين استخدموها كحصن منيع لردع الاعداء.
البعثة الفرنسية
بالنسبة إلى الموقع... ماذا كانت مهمة البعثة الفرنسية؟ وهل كان ومازال الموقع هو الوحيد الذي نقبته وتنقبه حتى اليوم؟ - البعثة الفرنسية لم تعمل فقط في موقع القلعة فقط بل نقبت في مناطق أخرى من البلاد في سنوات مختلفة... القلعة كانت ومازالت مصدر اهتمامنا وموقعا لدراساتنا عن تاريخ بلدكم القديم حتى اليوم وتحديدا منذ تأسيس بعثتنا الى البحرين في العام .1978 عندما بدأنا بعملنا في موقع القلعة كان قد سبقنا في ذلك الدنماركيون في العام 1954 لكننا قررنا ان ننقب بجدية وبأسلوب علمي مختلف عما قام به الدنماركيون وهو ما جاء بنتيجة إيجابية إذ اكتشفنا حقائق ومواقع أثرية جديدة تضاف لرصيد تاريخ البحرين القديم. لكن... هل أكمل الدنماركيون تنقيباتهم في الموقع؟ - الدنماركيون لم يكملوا تنقيباتهم في أكثر من موقع وليس فقط في موقع القلعة... وبصراحة كان هناك قصور في المعلومات عن مواقع البحرين من قبل الدنماركيين الذين لم يوثقوا الكثير مما اكتشفوه في دراساتهم أو كتبهم فهناك عدد قليل من المؤلفات من قبلهم وهو ما لم يساعد بعثتنا وبعثات أخرى ممن قدمت الى البحرين. فمثلا موقع القلعة الإسلامية المقابل للساحل الذي اكتشف في العام 1987 على يد خبيرة الآثار الفرنسية مونيك كارفران لم ينقب إلا جزءا طفيفا من قبل الدنماركيين الذين اكتفوا بدراسة جدرانها فعندما وجدوا أنها تعود الى الحقبة الإسلامية لم يكترثوا بإكمال عملية التنقيب من دون أية أسباب تذكر.
اكتشاف الموقع
هل معنى ذلك أن موقع القلعة اكتشفه الدنماركيون؟ - قد يكون ذلك موثقا ونستطيع القول إنه اكتشف من قبل الدنماركيين في العام 1954 من حيث ان أوائل علماء الآثار كانوا منهم وهما غلوب وجيفري بيبي اللذان لاحظا ان أساسات القلعة لا تعود الى حقبة البرتغاليين لكنها بنيت على انقاض قلاع أخرى كانت مطمورة في الرمال شكلت على هيئة تل كبير تصل الى عشرة أمتار مرتفعة عن سطح البحر... طبعا اكتشفوا ذلك لانهم خبراء في الآثار فقد عرفوا ان التل لم يكن جزءا من طبيعة الموقع. ولاحظوا أيضا ان هناك بقايا جزء من برج القلعة يطل بالقرب من الساحل المقابل للموقع وقد كانت تلك نقطة البداية لتنقيب القلعة من قبلهم. لكن البحرينيين منذ آلاف السنين كانوا بعلم بأقدمية الموقع فمنهم من نبش به ومنهم لا، لذلك فإنه قد ترك مهملا! أين تكمن دراسات البعثة الفرنسية في الموقع؟ - تركزت على مشروعين... فالأول تضمن من 1977- 1978 الى 1988 الذي كان مشرف من قبل زميلتي مونييك كارفران بينما المشروع الثاني فمن 1989 وحتى اليوم... وهو المشروع الذي أشرف عليه شخصيا. كلا المشروعين للتنقيبات مختلفان فالاول ركز على الآثار الاسلامية اذ ان البحرين كانت مركزا وطريقا تجاريا مهما في الحقبة الاسلامية وقد لوحظ اكتشاف الكثير من الفخاريات الصينية التي تعود إلى القرن الثاني عشر والثالث عشر الخاصة بالتبادل التجاري مع الصين آنذاك إذ كان يصدر دبس التمور اليهم في مقابل ذلك... ووجدت بعض المدابس داخل هذه القلعة وكان الصينيون مهوسون بهذا المنتج الجديد على ثقافتهم الغذائية. وللعلم فإن ذلك كان أول اتصال وتبادل تجاري تاريخي بين البحرين والصين!
قلعة الساحل
هل هذا كل شيء عن القلعة الصغيرة؟ - لا، طبعا، فقد اكتشف من خلال التنقيبات ان الفترة الاسلامية التي تعود الى القرن الثالث عشر بالنسبة إلى القلعة الاسلامية قد شيدت على أنقاض جدران قلاع أخرى لاتزال قائمة وتعود الى نهاية فترة تايلوس التي ليس معروف من بناها حتى الآن وأخرى الى حقبة حكم السلاجقة وهي سلالة فارسية. فقد عثرنا على عملات معدنية ووثائق ومقتنيات اثرية تعود الى السلاجقة الذين حكموا البحرين آنذاك... اذ رمموا جدران القلعة لاستخدامها لاغراض تجارية ومدابس للتمور وتصديرها من خلال مرفأ ومدينة قريبة التي يرجح ان تكون اساساتها وامتدادها الى مدينة دلمون المبكرة اللتين قد تكونان مطمورتين في قاع البحر وهو ما قد يكشف عنه من خلال التنقيب البحري «المارين اريكولوجي» في المستقبل القريب بعد الحملة التي نظمت من اجل وقف ردم ساحل القلعة. وهو اكتشاف تاريخي لم يدون من قبل الدنماركيين لكنه كشف عن مدى أهمية موقع جزيرة البحرين التاريخي وأيضا مدى قدم أساسات القلعة الاسلامية تحديدا. يعني ان الموقع يضم قلعة اسلامية... وهل هذه هي تسميتها؟ - تسميتها تغيرت بسبب المكتشفات ونحن الآن نفضل تسميها بقلعة الساحل الأصغر حجما لأنها تطل على الساحل وهي تختلف عن القلعة الاساسية الكبيرة ما يعرف بالبحرين اليوم وفي الماضي بقلعة البرتغال لان مراحلها وظروفها التاريخية تختلف.
القلعة مركز الحكم
ماذا بالنسبة إلى مشروع البعثة الثاني الذي تشرف عليه شخصيا؟ - المشروع الثاني والاكتشاف الآخر للبعثة الفرنسية تضمن تنقيب الجزء الشمالي لموقع القلعة الكبيرة أي منذ العام 1989 بينما الجزء الجنوبي نقبه الدنماركيون من العام 1954 وحتى العام .1965 طبعا التنقيب في الجهة الشمالية تركز على الأساسات التي تعود الى فترات دلمون المبكرة وتحديدا المدينة الاولى التي يعود عمرها الى 2200 قبل الميلاد لكننا لا ندري ما حل بالمدينة الاولى بينما المدينة الثانية لدلمون وجدت بقايا لجدران مبانيها الكبيرة التي يرجح انها كانت قصر الحكم ومركزه الاقتصادي للتبادل التجاري وجمع الضرائب الى جانب السوق الصغيرة الموجودة في الموقع. فحضارة دلمون عبارة عن مملكة أدارها ورعاها ملك على غرار ملوك وادي الرافدين وقد وجدنا ما يثبت ذلك. ايضا درسنا الفترة الاسلامية للقلعة الكبيرة التي ترجع الى القرن السادس عشر من خلال دراسة الفخاريات والمعثورات الأثرية التى عثرت اثناء التنقيب التي صنعت في البحرين واخرى جلبت مصنعة من ايران والعراق وسورية ومصر... مرورا الى الفترة البرتغالية. يعني أنكم درستم أكثر من مرحلة تاريخية للقلعة الكبيرة وأطرافها؟ - طبعا فهو الهدف الرئيسي الذي يقوم به طاقم فريقي حاليا... فالفترة الاسلامية أصبحت معروفة بعد تنقيبات البعثة الاولى بينما فترات دلمون وتايلوس لاتزال معلوماتها ناقصة وغامضة بفك رموزها في بعض الاوقات من خلال دراسة المكتشفات فالدراسة والبحث قد يطولان لانهما ليسا بالامر السهل على رغم ان التنقيبات السابقة لعبت دورا في الكشف عنها إلا انها لم تواصل عملها وهو ما اخر الكشف عن امور اخرى لاتزال تحير خبراء وعلماء الآثار كثقافة وعادات الدلمونيين مثلا وقد تكون الاختام الدلمونية قد خدمت جانبا ان لم يكن رئيسيا في فهم طبيعة هذه الحضارة.
اليونسكو والحلم
كلمة أخيرة؟ - على البحرينيين ان يقدروا قيمة هذه الكنوز في بلادهم التي هي جزء لا يتجزأ من التراث الانساني... عليهم ان يسعوا الى حفاظه لا تخريبه... وهي مسئولية الجميع من الكبير الى الصغير... عليهم ان يسعوا الى تحقيق الحلم وهو حلم الجميع من مختلف الاجناس بتسجيل موقع القلعة على قائمة التراث الانساني لمنظمة اليونسكو وذلك من خلال الايفاء بالشروط فهذه ثروة وطنية وانسانية لا يمكن الاستهانة بها بل يمكن الاستفادة من الآخرين ممن سبقوا البحرين في هذا الجانب... فالفرنسيون احبوا البحرين من خلال دلمون والقلعة... ولا يمكن استنساخ الآثار او تعويضها ان ضاعت
العدد 813 - الجمعة 26 نوفمبر 2004م الموافق 13 شوال 1425هـ