ليس من العادة أن تعير وسائل الإعلام الألمانية أهمية لمقتل طفلة فلسطينية على يد جندي إسرائيلي، ذلك أن الفلسطينيين أنفسهم يجدون صعوبة في حصر عدد المدنيين الفلسطينيين الذين سقطوا برصاص جنود الاحتلال منذ بدء الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية. فالجيش الإسرائيلي يفرض رقابة على رسائل المراسلين الأجانب التي تدور حول الحرب الصغيرة الدائرة ضد الفلسطينيين والتي يخيم عليها بعض الهدوء منذ وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. لكن الرقابة هذه لم تمنع تبلور فكرة عن الممارسات التي يقوم بها جنودها في المناطق الفلسطينية المحتلة.
وشاءت الصدف أن توجد عدسات التلفزيون في المكان والوقت المناسبين، وهكذا شاهد العالم مقتل الطفل محمد الدرة بينما كان والده يحاول حمايته. ولم يكن الدرة حالة نادرة، فملف ضحايا الغارات والهجمات الإسرائيلية على المدن والقرى الفلسطينية مليء بأسماء أطفال بينهم رضع أيضاً. وسعت «إسرائيل» بعد أشهر على استشهاد محمد الدرة إلى القيام بحملة إعلامية واسعة في الولايات المتحدة وأوروبا مدعية أن الطفل الفلسطيني قتل برصاص الشرطة الفلسطينية! ثم شهر الإسرائيليون بصورة طفلة قالوا إن مقاتلين فلسطينيين أجهزوا عليها عند مهاجمتهم إحدى المستوطنات. وحين اقتحمت «إسرائيل» جنين في الضفة الغربية وقتلت ومثّلت بالجثث وهدمت المنازل على رؤوس القاطنين فيها كانت قبل ذلك قد قامت بخطوة ملفتة للنظر، إذ حظرت دخول الصحافيين هذه المنطقة، ولم تسمح بذلك إلا بعد أيام عملت خلالها البلدوزرات ليلاً ونهاراً في محاولة يائسة لإخفاء آثار الحملة الاجرامية. كما منعت الصليب الأحمر الدولي والأمم المتحدة من دخول جنين.
إعلام من طرف واحد
وتجري العادة أن تنقل وسائل الإعلام الغربية بالذات أنباء الصدامات المسلحة في فلسطين المحتلة نقلاً عن ناطق باسم جيش الاحتلال. وهكذا يحصل الرأي العام الغربي دائما على صورة مغايرة للواقع، ذلك أن كل فلسطيني يسقط برصاص الإسرائيليين هو «إرهابي» أو قام بعمل إرهابي حسب الدعاية، أو أن اسمه على قائمة المطلوبين. لكن تلميذة المدرسة إيمان الحمص البالغة 13 عاماً، لم تكن حين قتلت بطريقة شنيعة في سن يسعف الإسرائيليين ليبرروا قتلها، فهي ليست إرهابية ولم تحمل السلاح في حياتها، واسمها ليس على قائمة المطلوبين.
للوهلة الأولى فإن قيام ضابط بقتل تلميذة كانت في طريقها إلى مدرستها ليس حادثاً عادياً. ولم تعلق القيادة العسكرية الإسرائيلية على هذه الجريمة الجديدة إلا بعد أكثر من شهر. ونقلت صحيفة «زود دويتشه» الصادرة بمدينة ميونيخ عن رئيس الأركان موشيه يعالون قوله إنه يأسف لعدم توصل الجيش لمعرفة الملابسات الحقيقية لما وصفه بحادث مقتل تلميذة فلسطينية على يد ضابط إسرائيلي. لكن القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي كشفت النقاب عن رسالة صوتية التقطت عبر اللاسلكي يقدم الدليل على أن قتل التلميذة كان عمداً. وكان يعالون قبل بث الشريط قد أعلن مساندته للضابط القاتل، وأبلغ وسائل الإعلام الإسرائيلية أنه يصدق الشهادة التي قدمها الضابط عند التحقيق معه بشأن ملابسات الحادث، حيث زعم أنه أطلق الرصاص من بندقيته قرب التلميذة وليس على رأسها وجسدها كما أظهرت الصور.
وتم تسريح الضابط المجرم من الخدمة العسكرية منذ بداية أكتوبر/تشرين الأول، إذ ينتظر موعد المحاكمة من قبل محكمة عسكرية بتهمة إساءة استخدام السلاح. لكن يعتقد أن الكشف عن الدليل الجديد وتراجع رئيس الأركان عن تأييده للضابط القاتل قد يخلط أوراق القضية من جديد. وحسبما نقلت الصحيفة عن مصادر إسرائيلية قد يجري حل الوحدة العسكرية التي ينتمي إليها القاتل.
وكانت التلميذة إيمان الحمص في الخامس من أكتوبر في طريقها إلى المدرسة في مدينة رفح في الطرف الجنوبي من قطاع غزة، حين وجدت نفسها أمام موقع لجيش الاحتلال، وعلى الفور سارع الضابط وجنود الموقع لإطلاق النار في الهواء، ما أثار الفزع الشديد في قلب التلميذة التي هرعت تاركة حقيبة المدرسة وراءها محاولة الاحتماء. في هذا الوقت كان أحد الجنود يراقبها بمنظاره وأبلغ الضابط أن الفتاة تبلغ حوالي عشرة أعوام، وقد أصيبت بجروح فيما قال الجيش الإسرائيلي أن جنود الموقع شكوا بأن تكون التلميذة أخفت في حقيبتها متفجرات. غير أن ما جرى بعد ذلك عبارة عن جريمة بشعة، إذ توجه الضابط إلى مكان الفتاة وكانت ممددة على الأرض وبدلاً من أن يطلب إرسال سيارة إسعاف صوب فوهة بندقيته إلى رأسها وأطلق رصاصتين ثم أفرغ خزان بندقيته في جسدها النحيل. وذكر أطباء فلسطينيون عاينوا الجثة أن الرصاصات مزقت جسد إيمان الحمص وأحدثت فيه خمسة عشر فجوة. وجاء في الشريط التلفزيوني صوت الضابط القاتل وهو يقول عبر اللاسلكي بعد ارتكابه جريمته البشعة: «لقد قتلتها وتأكدت من موتها» وأضاف: «سنقتل كل شيء يتحرك هنا حتى لو كان طفلا في الثالثة من العمر».
وذكرت صحيفة «زود دويتشه» أن القضية تتعرض لانتقادات واسعة في وسائل الإعلام الإسرائيلية وبصورة غير عادية، إذ جرت العادة أن يخفي الجيش الإسرائيلي المعلومات عن وسائل الإعلام، كما أن أجهزة الإعلام الإسرائيلية نفسها تفرض رقابة على نفسها وتمتنع عن انتقاد ممارسات الجيش ضد الفلسطينيين، وإن فعلت في حالات نادرة فإنها تبرر جرائم الجنود بأنهم لا يتحملون الضغط الناتج عن تأديتهم الخدمة العسكرية في مناطق الفلسطينيين.
ويأتي الكشف عن ملابسات مقتل التلميذة إيمان الحمص بعد افتضاح أمر وحدة عسكرية إسرائيلية على أثر نشر صور من طراز «أبوغريب» ظهر فيها جنود إسرائيليون وهم يرفعون شارة النصر أمام جثة مقاتل فلسطيني، وأخرى ظهر فيها جنود وهم يضعون سيجارة في فم مقاتل آخر انفصل رأسه عن جسده بعد أن فجر نفسه.
وبينما تدعو وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى حل الوحدة العسكرية التي افتضح أمرها، هناك من يعتقد داخل «إسرائيل» وخارجها أن هذه الجرائم والممارسات ليست حالات نادرة، وإذا ذاب جبل الجليد سيصعق العالم حيال جرائم هذا الجيش العنصري
العدد 813 - الجمعة 26 نوفمبر 2004م الموافق 13 شوال 1425هـ