العدد 813 - الجمعة 26 نوفمبر 2004م الموافق 13 شوال 1425هـ

للأسف... سيناريو لم يحدث

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

في أحيان كثيرة، وعندما يتعلق الأمر بأحاديث الساعة أياً كان نوعها، تراودني رغبة في إعادة ترتيب الحدث وصياغته بشكل آخر. لست وحدي على ما أظن، فالكثيرون تراودهم الرغبة نفسها، يعبرون عنها في أسئلتهم أمام الحدث المعني وآرائهم، لكن دوماً بالكلمة الأشهر: «المفروض».

طالما أن شجار النواب حول بيان الفلوجة هو حدث الساعة اليوم، وجدت نفسي مدفوعاً منذ لحظاته الأولى لإعادة صياغة الحوار (أعني المشاجرة بالتأكيد) على نحو جديد. صياغة تبدو خيالية طبعاً وفيها الكثير من التفكير في الأمنيات(Wishful Thinking) لكنني لم اقاوم ان احبسها في نفسي. إليكم سيناريو خاص بي للحدث.

لنبدأ من الاتفاق على إصدار البيان:

- نائب 1- زملائي الكرام، الوضع في الفلوجة يكتنفه الغموض وهو موضع انقسام مثلما كان الأمر قبل شهور في مدينة النجف. نحن مع الشعب العراقي بالدرجة الأولى وأرى أن نؤكد ثوابت معينة من دون أن ننزلق إلى وضع نبدو فيه وكأننا نمارس تدخلاً في شئون داخلية لبلد عربي آخر.

- نائب 2- ربما ما تقوله صحيح، لكن الوضع في الفلوجة متفاقم إنسانياً ومشاهد الجنود الأميركيين وهم يقتحمون البيوت والمساجد تثير النفس. الوضع يستدعي إعلان موقف حفاظاً على أرواح المدنيين مثلما فعلنا أثناء أزمة النجف، كما أن المقاومة حق مشروع للعراقيين أو لأي شعب آخر طالما أننا نعرف الأميركيين قوة احتلال.

- نائب 1- لا نختلف على أن الأميركيين قوة احتلال، ومشاعرنا مستفزة ونحن نتابع ما يجري. لكن ما أراه هو أن المقاومة تشكل محور انقسام في أوساط الشعب العراقي بالدرجة الأولى، فهناك من هو مع المقاومة وهناك من هو ضدها. العراق مثلما تعلمون في مرحلة إعادة بناء الدولة من جديد، والحكومة العراقية أياً كانت آراؤنا الشخصية فيها تحظى بدعم غالبية العراقيين من جميع الأطياف الممثلة في الحكومة. كل ما اطلبه هو ألا يبدو البيان الذي ننوي إصداره وكأنه تدخل في شئون العراقيين إذا نحن لم نحترم خيارات كل الشعب العراقي.

- نائب 2- لكننا لا نريد أن نصدر بياناً باهتاً أيضاً يخلو من أي موقف صريح مما يجري في هذه المدينة أو في العراق عموماً. الأوضاع هناك لا يمكن السكوت عنها. أنا متفق معك في الاعتبارات السياسية والاعتبارات الأخلاقية وخصوصاً فيما يخص الشعب العراقي وخياراته، لكن لابد من موقف صريح وواضح.

- نائب3- إذاً أعتقد أننا متفقون على الخطوط العريضة للبيان. دعوة للحفاظ على أرواح المدنيين، تأكيد رفض الاستخدام المفرط للقوة، الإسراع في بناء مؤسسات الدولة العراقية، تأكيد ضرورة إسراع الأميركيين بالانسحاب من العراق، يمكن أن نزيد بأن على الأميركيين أن يتركوا الأمن للحكومة العراقية، ادانة كل أشكال العنف والإرهاب أياً كان مصدرها. هل هذا يكفي؟

- نائب 2- ألا ترون أن علينا أيضاً تأكيد حق العراقيين في مقاومة الاحتلال؟

- نائب 7- أعتقد أن مثل هذا الأمر يجب أن يقرره العراقيون في المقام الأول، ونحن مثل باقي الناس ربما تكون لنا وجهات نظر شخصية في الأمر، لكن كمؤسسة تشريعية وبرلمان أعتقد أن علينا أن نحترم ما يقرره الشعب العراقي. وطالما أن الشعب العراقي منقسم حول المقاومة فإن تأييدنا لها بشكل صريح قد يبدو انحيازاً لطرف مقابل طرف آخر وتدخلاً في الشئون الداخلية للعراق.

- نائب 2- أعتقد أننا متفقون بهذه الطريقة، لكن أرجوكم (محاولة للاسترخاء عبر جر الزملاء للضحك) أصدروا بياناً قوياً بعض الشيء ولتعهدوا به الى الزميل رقم 15 المشهور ببلاغته.

أعرف أن بعضكم سيضحك والبعض الآخر سيسخر لكنني ادرك أن غالبيتنا ستتحسر لا لأن حواراً مثل هذا في برلماننا مازال يبدو أمنية، بل لأن كل ما يجري منذ جلسة المشاجرة تلك وحتى اليوم مبني للأسف على «مشاجرة». مشاجرة جرت بعد رفع الجلسة وهي تقل بمستواها وألفاظها عن مثل هذا السيناريو بدرجات لأنها ببساطة «مشاجرة».

ما يزيد في الحسرة، أنه على هذه المشاجرة بنيت مواقف وراح البعض ينقب في اللوائح والقوانين لكي يستل من النصوص ما يشاء وكله بناء على «مشاجرة». تم تأجيج المشاعر بناء على مشاجرة، حبست البلد انفاسها بناء على مشاجرة. عوقبت صحافية وصحيفة بناء على مشاجرة لأنها نقلت كلمة واحدة من بين عشرات من الكلمات غير اللائقة حتى ليبدو لنا أن كل ما يجري وكل الخلاف انما يتعلق بتصحيح لألفاظ غير لائقة وردت في مشاجرة. مثل ذاك الذي أراد أن يصحح مفردة تلفظ بها وسط شجار وانفلات في المشاعر: «لم أقل انك أحمر» بل قلت «إنك محمر». هكذا الحال، والآن ائتونا بفطاحل القضاة والقانونيين لكي يفسروا لنا الفارق بين الكلمتين.

في نهاية المطاف، سيبدو ذلك السيناريو خيالياً طبعاً في نظر الكثيرين لأنهم في دواخلهم مقتنعون: «هذا هو مجلسنا للأسف» وبعد تلك المشاجرة لم يقل رجال ناضجون: «استغفر الله» قبل ان يجروا البلد بكامله إلى الاحتقان وأن يعيدوا تقسيم الناس إلى «مع» و«ضد» في استعراض مجاني لطائفية يتبرأ منها الجميع في الخطب لكنها غائرة وعميقة الجذور في النفوس، لا تحتاج إلى الكثير من العناء لتطل برأسها في أول اختبار ومحك.

هل يتعين عليّ الآن أن أتوقع ورقة من النيابة العامة تبلغني أن هناك دعوى ضدي بتهمة التشهير والقذف؟ هكذا هو الحال، لا نتذكر القانون الا لنسكت أصوات الآخرين. فسيادة القانون أصبحت تبدو مرادفاً لعبارة: فليذهب إلى الجحيم. لا تعني سوى محاولة اسكات الآخرين واخراسهم عبر النصوص والدعاوى. حسناً أنا مستعد... مع الأسف

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 813 - الجمعة 26 نوفمبر 2004م الموافق 13 شوال 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً