أحسب أن كثيرين سيتبادر إلى أذهانهم هذا التساؤل: ما هي علاقة المصالحة مع الذات بالتنمية والتطوير؟ وهو سؤال له ما يبرره لكثرة ما تم استخدام هذه المصطلحات حتى تاهت الدلالات والمعاني، وأصبحت الكلمات مشحونة بما وراءها، والسطور مسكونة بما بينها، فلم نعد نعرف ما هو المقصود، وبتنا نشكك ونخاف من كثرة الوعود، ولسان حالنا يقول: «أسمع كلامك يعجبني أشوف أفعالك أستعجب».
دعوات كثيرة، تخرج علينا كل يوم في شكل وإطار جديد، كلها تنادي بالاهتمام بالإنسان والتنمية البشرية، التي حققنا فيها نتائج متناقضة جداً، فنحن على الصعيد الرسمي من بين الدول المتقدمة والمشهود لها عالمياً في مضمار التنمية البشرية، لكننا على الصعيد الشعبي من بين أكثر الدول فقراً، وأكثرها تراجعاً في مستوى دخل الفرد، وأقلها توفيراً لفرص العمل، ناهيك عن ابتعادنا بأميال كثيرة عن مجتمعات الرفاهية التي يعيشها إخواننا في دول مجلس التعاون لدول الخليج الذي ستستضيف مملكة البحرين قمته الـ 26 في شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
ولكن ما علاقة القمة الخليجية، بالمصالحة مع الذات؟ دعونا نعود إلى صلب الموضوع فهو في جوهره محلي الهوى والهموم! لأننا في مملكة البحرين وتحديداً في معظم القرى وبعض المدن، نعيش حالاً من العدائية غير المبررة وغير المفهومة، وكما يقولون «من شاف مصيبة غيره هانت عليه مصيبته»، لكن المشكلة هنا أن مصائبنا كلها من النوع ذاته.
في كل قرية ومدينة من قرى ومدن البحرين العتيدة نجد خلافات حول قضايا وموضوعات تستهلك الكثير من الجهود والطاقات من دون طائل، تصوّروا معي أن مشكلة اختلاف بشأن أحقية إدارة أحد المآتم في واحدة من قرانا دامت أكثر من 28 سنة! ولا يعلم إلا الله متى ستنتهي وإلى أين؟ وأستطيع أن أؤكد للقراء الأعزاء أن قرى أخرى كثيرة هي في طريقها إلى الحال ذاتها!
خلافات من نوع آخر أكثر سماجة وتفاهة بشأن من يتولى الإشراف على هذا الجامع أو المسجد، ومن يمسك بناصية هذا الصندوق الخيري، ومن يشرف على عمل هذا النادي، ومن يدير ذلك المركز الرياضي، ومن يسيطر على تلك الجمعية، ومن يترأس موكب العزاء، ومن يكون عريفاً لهذا الحفل، أو مديراً لهذه الندوة! وقد يصل الأمر إلى أكثر من ذلك فيدخل الجميع في خلافات من النوع المقزز من قبيل من يحفر القبر لميت ينتظر مثواه الأخير؟ ومن سيرش الماء على القبر؟ ومن يفصّل الكفن؟ ومن يصلّي عليه؟ وأين تقام الفاتحة على روحة الطاهرة؟ على رغم أن كثيراً ممن يختلفون على هذه التوافه من الأمور قد يكونون من الإمعات الذين لا تسمع لهم صوتاً ولا ترى لهم دوراً إلاّ في مواقف من هذا القبيل!
أبداً وكأن الدنيا قد ضاقت بنا حتى لم يعد أمامنا من مواقف بطولية نتحدث عنها إلا وتؤدي إلى المزيد من المشاحنات والتوتر، تصوّر أن تذهب لتقديم واجب العزاء في شخص توفاه الله، فتدلف ماراً بأهل الفقيد تمد يدك مصافحاً ومعزياً فتجد شخصاً هنا وآخر هناك قد أسبل كل منهم يده ممتنعاً عن مصافحتك، أو يحدث الموقف معكوساً، فحين تهب واقفاً للسلام على معزٍ جاء ناحيتك، فيتجاوزك وكأن مجرد ملامسة يده ليدك ستدخلك الجنة وربما تدفعه الى النار!
من أين جاءتنا هذه الثقافة؟ ومن زرع الأحقاد في أوساطنا؟ ولماذا لا يوجد في مجتمعاتنا من يقوم بدور الحكيم الذي يقدم النصح ويسعى لرأب الصدع بين الناس؟ حتى يتفرغ الجميع للانشغال بما يفيدهم ويعمر دنياهم ويحفظ دينهم وعلاقاتهم الاجتماعية والأسرية والإنسانية؟
يبدو أن الأمر أكبر مما نتخيل! لقد تغلغلت هذه المسلكيات في حياتنا، وصارت جزءاً أصيلاً من ثقافتنا وتقاليدنا الراسخة، حتى بات من الصعب أن نفكر في تجاوزها أو أن ندعو إلى إعادة النظر فيها، لأننا في تلك اللحظات سندخل في مواجهات مع أقرب المقربين لنا، وسنتهم بالتهاون والتنازل، والخيانة والعمالة، والتملق والتزلف والنفاق والشقاق وربما... الانبطاح أيضاً!
أليس فينا رجل رشيد؟ ألا يخرج في بلادنا مصلح اجتماعي غيور ومتفتح ومنفتح أيضاً؟ يغير من بوصلتنا ويعيد ترتيب أولوياتنا حتى لا يزداد التيه بين شبابنا ويزداد التغريب ويزداد الفلتان والانهيار الأخلاقي والاجتماعي. لماذا يسكت رجال الدين عن هذه القضايا ولا يعيرونها بالاً؟ أين النخبة من المثقفين والمتعلمين الذين تعول عليهم الأمم؟ أين من يمتلكون الحكمة وروح المبادرة؟ ليأخذوا بيد مجتمعاتنا إلى عوالم أكثر انفتاحاً على الآخر وتسامحاً معه وقبولاً به؟
«من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم»، وأي أمر يدخل في صلب حياة المسلمين ويعيق تقدمهم على أكثر من صعيد أكثر من هذه الخلافات البغيضة المقرفة جداً؟ إذاً هذه دعوة لكل صاحب رأي وفكر وبصيرة لأن يعمل ما في وسعه لزرع ورعاية والدعوة إلى المصالحة مع الذات، لأن أمامنا الكثير لنقوم بإنجازه في عموم بلادنا.
ومن دون شك فإن نجاحنا في تحقيق المصالحة مع الذات، سيؤدي إلى توفير الكثير من الجهود نحو التنمية والتطوير لمختلف قرى ومدن البحرين التي يخجل الزوار من زيارة بعضها رأفة بساكنيها حتى لا يساء فهمهم إن احداً منهم مد طرف عينه إلى خربة هنا أو بيت متهالك هناك أو شارع من دون تبليط مليء بالمطبات والحفر، أو شاهدوا طفلاً حافي القدمين رث الثياب شاحب الوجه أشعث الشعر.
مشاهد يندى لها الجبين، ومشكلات في كل لحظة وحين، لا تجد من يسعى إلى حلها أو حلحلتها حتى يخيل لك بأنها قدرٌ محتومٌ لن يذهب من أمام ناظريك إلاّ حين يحين الوقت المعلوم ويحل بك القضاء المحتوم!
نحن في مختلف قرى ومدن البحرين نمتلك الكفاءات والمبدعين الذين يستطيعون قيادة التنمية والتطوير لهذه البلاد الغالية، لكنهم مكبلون بهذه التقاليد البالية، فهل من انتفاضة على هكذا تقاليد؟
تعالوا نعيد رسم الأولويات، ونفكر في كل ما هو آت، نريد للجيل الجديد مساكن مناسبة! أين يمكن بناء هذه المساكن؟ في المنطقة الفلانية! من يملك هذه الأرض؟ وكيف نستطيع أن نحصل عليها ونوفرها للأجيال القادمة؟ دعونا نتصل بالمسئولين... ونلح عليهم في عمل شيء، ونستخدم كل علاقاتنا لفرز هذه المنطقة لصالح المشروع الإسكاني!
لدينا عدد كبير من العاطلين عن العمل؟ لماذا لا يحصلون على وظائف؟ هل لأنهم غير مؤهلين؟ إذن لنقم بترتيب برامج ودورات تدريب لهم من خلال الأجهزة الرسمية أو عن طريق بعض المعاهد، ثم بعد ذلك نجري كل الاتصالات الممكنة للحصول لهم على الوظائف المناسبة.
هنا عدد من الشباب الذين تجاوزوا سن الزواج، لماذا لم يتأهلون بعد؟ لأنهم لم يجدوا القرين المناسب، أو لأن إمكاناتهم لا تساعد على ذلك، فالمهور غالية، وكلف الزواج باهظة، دعونا نخترع نظاماً اجتماعياً يساعد في حل هذه المشكلة! هل من الممكن الاستعانة رجال الدين في هذا المجال؟ إذن لنقم بدعوتهم لتقديم مساهمتهم في ذلك، هل يمكن لرجال الأعمال تحمل جزء من المسئولية؟ علينا الاتصال بهم وتشجيعهم على المساهمة. هل يمكن للصناديق الخيرية أن تتبنى ذلك؟ حسناً، دعوها تشرف على هذا الموضوع.
في هذه المنطقة عدة بيوت آيلة للسقوط، بعضها يستخدم أوكاراً للمخدرات وشرب المسكرات، وإضاعة الأعمار والأوقات، هل أخبرنا الجهات المسئولة؟ ماذا كان ردهم؟ لقد تأخروا في الاستجابة! حسناً، دعونا نضغط عليهم أكثر من خلال معارفنا وعلاقاتنا! هل من دور للمجلس البلدي؟ المجلس البلدي يومه بسنة، وطوال الوقت هم مشغولون بخلافات لا تنتهي! دعونا نشكل وفداً من الأهالي ونقوم بزيارة المجلس البلدي ليجد حلاً سريعاً لهذه المشكلة! هل قامت الصحافة بدورها في إجراء تحقيق صحافي عن هذا الموضوع؟ لقد اتصلنا بهم لكن أولوياتهم بعيدة عن منطقتنا حالياً! حسنا دعونا نقوم بالعمل نيابة عنهم، نكتب عن الموضوع، نوثقه بالصور، ثم نرسله إليهم ونطالبهم بنشره، ونرسل نسخاً من هذه الموضوعات للمجلس البلدي وجميع المسئولين المعنيين بالأمر.
وهكذا نتحول من متفرجين على الحدث إلى مشاركين في صناعته وإعادة صوغه، ننقل من خانة الخاملين غير المبالين، إلى قائمة المبادرين والمبتدعين. ومن دون شك فإننا سنجد أن علاقاتنا مع من يحيط بنا غدت أكثر تماسكاً، وأصبح وقتنا منتجاً وثميناً وله قيمة، فلا نعود نضيعه في خلافات تافهة، ولا نهدره في اهتمامات غير مفيدة، أو تسكع في الشوارع والمقاهي التي انتشرت كالحشائش الضارة وسط البستان فأتت على الأخضر واليابس، ولم تعد تشاهد إلا سحب الدخان وهي تملأ المكان، ولم تعد تسمع إلا ضحكات صاخبة تنتهك السكون وتزعزع السكينة لهذه الأمة المستكينة
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 813 - الجمعة 26 نوفمبر 2004م الموافق 13 شوال 1425هـ