هل تذكرون «الحطيئة»؟ ذاك الذي سبّ المهاجرين والانصار في مدينة الرسول (ص)، فحبسه الخليفة عمر فاستعطفه الحطيئة، فرقّ له وأطلقه ونهاه عن هجاء الناس، فقال: «إذن تموت عيالي جوعاً»! فدفع له ثلاثة آلاف درهم ليكف لسانه عن الناس! وفي مرة أخرى جمع له أهل المدينة أربعمئة دينار (يا سلام!) ليقطعوا لسانه عنهم! ووقف اللئيم في اليوم التالي يطلب منهم نعلاً يلبسه!
وبعد ان انتهى من هجاء العالمين مال على أمه يهجوها، ثم على أبيه، فلما فرغت جعبته تماماً أخذ يهجو نفسه قائلاً:
أرى لي وجـهاً شوَّه الله خلقهُ فـقُبِّح مـن وجـهٍ وقُبِّح حامله!
ولما مات مات على ظهر حمارة شمطاء حسب وصيته، فـ «الكريم لا يموت على فراشه» كما قال، وإنّما على ظهور الحمير!
إذا قرأتم تاريخ الفلسفة، ستجدون مرادفاً للحطيئة لدى الألمان، وهو الفيلسوف المعقّد «شوبنهاور»، الذي كان ينظر إلى الناس جميعاً على انهم أشرار، وهو «الطيب» الوحيد في ألمانيا كلها... حتى أمه العجوز المسكينة اتهمها بالفجور والخيانة الزوجية.
ولنا من هذه النماذج «المحلية» حفنةٌ من الناس، ترى الناس كلهم على باطل، وما تتنزل عليهم من خطرات الظنون وحياً من السماء السابعة، وملعونٌ من يفكر بانتقاد «وساوسه»، وإلاّ فإن جعبته ملآى بأسوأ النعوت والصفات والشتائم الواردة في لسان العرب، يوزّعها في مقالاته على الآخرين بشكل يومي ولا يستثني منهم أحداً.
وإذا كان هناك استمراءٌ لأساليب الشتم والتطاول على الناس، وإطلاق التهم الباطلة بكل استخفافٍ وطيشٍ، فإن من التقصير السكوت عن المبطلين. وإذا كان هناك من تغاضٍ عن اتهامات شخصية سياسية مثل الشهيد الحكيم بالعمالة للأميركان، فلأنها تهمة رخيصة، أما ان يصل استغباء الناس والتذاكي على القارئ البحريني إلى حد اتهام المرجع السيستاني بأنه صوت لبريمر، فهذا منتهى الهراء.
ولسنا في وارد الدفاع عن شخص في حجم السيستاني، عاش في حصار الطاغية صدام حسين عرين عاماً يحمل همّ الملايين، وانما لنا أمنيةٌ بألاّ يكتب أحدٌ وهو تحت تأثير الكحول!
على أن القارئ البحريني قيّض له الحظ السعيد «شعشبونة» إلى جانب «شوبنهاور» العظيم، ليزداد همّاً على همّ! فمازالت تلطم صدرها وتشق جيبها، وتذرف الدمع السخين على فأر العروبة المغوار، الهارب إلى الغار، هازم اليهود والاميركان والتتار!
كل النائمين صحوا، وكل الغافين استيقظوا على المقابر الجماعية... إلاّ هذه الثاكلة المستغفلة. أعلى خبّازٍ تبيعين خبزك في ضاحية النهار؟
مرةً كانت تزور عائلة بحرينية تستضيف عراقيين ممن شتت شملهم صدام، فدافعت عنه بشراسة حتى أثارت استهجانهم، ولما اعترضوا على كلامها قالت: «ألم تتعلموا أنتم من أموال صدام؟»، ولكنها لم تقل كيف استولى ذلك التكريتي المشرّد على تلك الأموال، هل ورثها من أبيه أم من أموال نفط العراق التي كانت وقفاً عليه وعلى ولديه وبناته الثلاث وزوجتيه ساجدة بنت طلفاح وسميرة الشاهبندر... وما أحلى توارد الأسماء!
على أن أكبر مهاراتها ومواهبها التي ورثتها من «صدام» عند النزال هو الفرار من الميدان! مرة في ندوة دراسة «ماكينزي» التي عقدت في فندق الدبلومات، لمناقشة أخطر قضية تهدد البلد ومستقبل الأجيال، وقبل أن تختتم ألفيناها فارّةً بسرعة، لأن مزاجها تعكّر!
على أن آخر انسحاباتها «التكتيكية» فكان في ندوة «حقوق الانسان والاسلام»، فقد أطالت المماحكات حتى أضجرت المحاضر السيد هاني فحص، فقال لها: «لا أريد أن أدخل في مساجلات معك»، وكان السيد على حق، فهي من النوع الذي يرى الثور الأسود فيقول هذا بقرة صفراء! ومع ذلك استمرت في طيشها حتى ضاق بالسيد المقام فقال: «أنا رجلٌ لدي كرامة ولا أسمح لأحد بأن يهين كرامتي، ومن حقي أن تحفظوا لي كرامتي». ونقولها وإن كانت متأخرة: «كرامتك محفوظة يا سيد عند شعب البحرين، من مسئولين ومثقفين وعامة الجمهور، فلا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا». لكن هل تطمع في إقناع عبيد الطغاة وعشاق القيود وغربان المقابر الجماعية؟
العقدة النفسية المشتركة التي تجمع شعشبونة وشوبنهاور، والحطيئة وشاهبندر التجار، هو الاستهانة بالآخر... فليس في أعراف هذه الحفنة من البشر شيء اسمه «الاحترام»... وآخر أعمارهم الموت على ظهور الحمير
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 811 - الأربعاء 24 نوفمبر 2004م الموافق 11 شوال 1425هـ