العدد 811 - الأربعاء 24 نوفمبر 2004م الموافق 11 شوال 1425هـ

وقفة مع أفكار سماحة الشيخ حميد المبارك

هل العلماء أضاعوا الفرص فعلاً؟

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

الكلام المنسوب لسماحة الشيخ حميد المبارك والمنشور بإحدى الصحف المحلية بتاريخ 17/11، وكذلك الكلام نفسه الذي صرّح به لصحيفة «الوسط» بتاريخ 15 سبتمبر/ أيلول 2004، هذا الكلام يحمل في طياته دلالات وإيحاءات تستحق الكثير من التأمل والتوقف عندها. وسماحة الشيخ - بحسب علمي - مشهود له بمكانته العلمية، وهو من فضلاء الحوزة العلمية، وتكراره للأفكار نفسها بين الفينة والأخرى، وفي أكثر من موقع ومنها المنبر الحسيني، كل هذا يعطي الموضوع أهمية خاصة تستدعي مساءلة الأفكار التي ساقها الشيخ في المصادر المشار إليها. وما قدّمه الشيخ في مجمله مقدّمات، تصب في نتيجة واحدة صرّح بها تكراراً، وهي غياب التخطيط لدى العلماء (المتنفذين) كما وصفهم، ومن ثم اتخاذ مواقف لا تخرج عن دائرة الرفض الذي كما وصفه، لا يعدو كونه هروباً إلى الأسهل، «ومراوحة في منطقة التنظير الفوقي الذي لا يلاحظ مقتضيات الواقع على الأرض ولا يأخذ بالأسباب والسنن». وفي محاولته إثبات خطأ التفكير عند العلماء وانعدام التخطيط ومن ثم تضييع الفرص، فقد استعان الشيخ بالإيحاء من خلال ضرب الأمثلة من الماضي، وإسقاطها على الحاضر. ولكن هل كان مصيباً فيما طرح، أم أن نزع صورة من الماضي وإسقاطها على الحاضر من دون ظروفها التي أحاطت بها كاملة تعتبر عملية مجتزأة ومبتورة، فتعطي صورة شوهاء للماضين؟

فيما يتعلق بالدراسة الجامعية، وعدم صمود فتاوى تحريم الاختلاط أمام الواقع، هل يعني ذلك أن يتم التساهل في تلك الفترة الماضية إذ لا توجد جامعات في البلاد، وإنما تتم الدراسة غالباً في الدول الأجنبية، إذ بدأ التعليم الجامعي في البحرين متأخراً، ففي العام 1978 افتتحت كلية البحرين الجامعية للعلوم والآداب والتربية، ولم يكن من جامعة قبلها سوى كلية للتكنولوجيا تأسست العام 1968، تهدف إلى تلبية حاجات السوق من مهرة بالذات في تخصص الهندسة، وقد اندمجت فيما بعد مع كلية البحرين الجامعية لتصبح «جامعة البحرين». والمعروف أنّ ما قبل تلك الفترة، اتسم بغياب الوعي والالتزام الديني، وليس من باب المبالغة إذا قلنا إنه ولحد السبعينات، قلما تجد من يتخرج من الجامعات الأجنبية وهو باق على استقامته وعقيدته، فكيف يلام العلماء في تلك الفترة على مواقفهم هذه؟

وكانت جامعات الدول العربية التي بدأت الحكومة في ظل الاستعمار الإنجليزي آنذاك في إرسال بعثاتها إليها، جامعات تستهدف العمل التبشيري قبل أي شيء آخر، هذا فضلاً عن الجامعات في أوروبا. ومن هذه الجامعات، الجامعة الأميركية في بيروت، ففي العام 1928، كانت أول بعثة للدراسات العليا على نفقة الدولة لهذه الجامعة، والتي كانت حتى قبل هذا التاريخ، تسمى الكلية السورية الإنجيلية. هذه الجامعة التي لم تكن تحمل هم العلم بقدر ما تحمل همّ التبشير بالدرجة الأولى. يقول مؤلفا كتاب «التبشير والاستعمار في البلاد العربية» عن هذه الجامعة: «فتجبر جميع طلابها على دخول الكنيسة وعلى حضور درس التوراة...»، وقد نجحت في تحويل الكثير من الطلاب المسلمين إلى المسيحية، خصوصاً من العوائل الفقيرة التي كانت تجد في هذه الجامعة فرصة لتغيير حالتها المعيشية.

ورأي المبشرون في التعليم العالي، أن هؤلاء الطّلاب سيصبحون قادة في بلادهم يوماً ما، والتعليم أفضل وسيلة للتبشير. يقول عمر فرّوخ في الكتاب المذكور: «حتى المستر بنروز الذي جاء في العام 1948م لتسلم زمام الرئاسة في جامعة بيروت الأميركية كان أيضاً خاضعاً لهذه الفكرة، إنه يقول: لقد أدى البرهان إلى أن التعليم أثمن وسيلة استغلّها المبشرون الأميركيون في سعيهم لتنصير سورية ولبنان...».

إذاً، لو عادت الظروف الماضية، فلا أعتقد أن الشيخ سيرسل ابنته إلى الجامعة الأميركية مثلاً. وأما بخصوص الاختلاط، فقد تم التساهل معه من باب درء مفسدة أعظم تتمثل فيما تتطلبه الحياة من الأخذ بالعلم الحديث، ولكن مع اشتراط عدم الانحراف وبقاء الاستقامة، وهذا ما حدث عندما أقيمت الدراسة الجامعية داخل البلاد.

إذاً، كيف نلوم علماءنا في الماضي بسبب هذا الموقف، في عملية إسقاط غير موفقة على مواقف علماء الحاضر، فهل الشيخ درس ظروف الماضي حتى وصل إلى هذا الاستنتاج؟

لقد حرّم علماؤنا الماضون التلفزيون آنذاك، في ظروف تختلف عن ظروف حاضرنا من كل جانب، وخصوصاً بانعدام الصحوة آنذاك، وبعكس الواقع الحاضر، وأتذكر كلمة للإمام الخميني، يبرر فيها تحريم العلماء في ذلك الوقت للتلفاز لآثاره التي ربما أفسدت المسلمين لو تُرك الناس وشأنهم، وخصوصاً بوجود سيطرة تامة من قبل الاستعمار وأذنابه على كل ما يعرض، فهل يصح تخطئة موقف العلماء آنذاك من التلفاز؟

وأود هنا أن أعكس الوضع تماماً، فهل يتذكر سماحة الشيخ أنّ النساء قبل أكثر من 35 عاماً، كنّ يستخدمن الأماكن شبه المكشوفة للاستحمام وغيره كالعيون وما يسمى بـ «الكواكب»، آمنات من عيون الأجانب من الرجال، فضلاً عن التحرش والاعتداء، وذلك بسبب قوة الوازع الديني والعرف الاجتماعي، فهل يصح أن نبرر بعض المظاهر في الحاضر بمثل هذا الواقع الماضي؟ وهل نطالب بإعادة ذلك الماضي بحجة أنّ آباءنا وأمهاتنا كان هذا حالهم ونادرا ما يحصل ما نكرهه، أوليست ظروف الحاضر تمنع ذلك؟

وكثيراً ما تحدّث الشيخ عن مسألة التعليم الحكومي وامتناع العلماء عن إرسال أبنائهم إلى المدارس الحكومية، وأنا هنا لست في موقع التبرير لكل مواقف العلماء، فجلّ من لا يخطئ، ولكن ألم تكن مخاوف العلماء في مكانها، إذ إن الدولة وضعت يدها مباشرة على المدارس والتي كانت مدارس أهلية، ابتداء من العام 1929، وكانت البلاد آنذاك ترزح تحت الاستعمار الإنجليزي. ومخاوف العلماء لم تكن شذوذاً عن باقي المواقف في أكثر البلاد الإسلامية والتي كانت تتوخى الحذر في التعامل مع المؤسسات الرسمية التي يسيطر عليها الاستعمار، وأود أن أرجع الشيخ لكتاب «التبشير والاستعمار في البلاد العربية - تأليف مصطفى خالدي وعمر فرّوخ» بشأن هذا الموضوع، وهو كتاب تم تأليفه في العام 1953.

ونظرة سريعة على استخدام الاستعمار والمبشرين للتعليم لإفساد العقائد إن لم يكن تحويل التلاميذ للمسيحية، هذه النظرة كفيلة بأن تقنعنا بحقيقة المخاوف التي بنى عليها العلماء السابقون مواقفهم، والتي تغّيرت بالتدريج بنزوح الاستعمار من البلاد.

وحتى العام 1929، أي قبل أن تضع الحكومة التعليم المدرسي تحت وصايتها المباشرة، يذكر بعض المؤرخين أن الجهود التبشيرية دفعت بعض المستنيرين من الأهالي لإنشاء المدارس الحديثة مقابل المدارس التبشيرية، فأنشأت الجالية الإيرانية مدرسة الاتحاد العام 1910، وأنشأ محمد زينل مدرسة الفلاح، وبعدها أنشأت عدداً من المدارس تحت مسمى مدرسة الهداية، لتختص بالطائفة السنية، وقام الشيعة بإنشاء مدرستين في العام 1928 الأولى في المنامة (المدرسة الجعفرية) والثانية في الخميس (المدرسة العلوية)، هذا بجانب الحوزات العلمية والمدارس الدينية، وما شكّلته من نشر الوعي وتنوير الناس، وأما أن نفهم العلم بأنه فقط الدراسات التي تؤهل لمهنة معينة كالهندسة والمحاسبة، فهذا أمر لا يقرّه عاقل، فالعلم لا تقابله الأمية الأبجدية بقدر ما تقابله الأمية الثقافية التي يعاني منها الكثير من متعلمينا وحملة الشهادات العليا في العلوم والهندسة وغيرهما.

وفيما يتعلق بالأوقاف كمثال آخر ساقه الشيخ لمقولة تضييع الفرص، فلا ندري مدى إحاطة الشيخ بظروف الأوقاف آنذاك وكيف أصبحت بيد الحكومة كاملة، فهل كان تساهلا وغفلة من العلماء السابقين؟ أم أنّ ذلك تم فرضاً بقوة السلطة، وفي كلتا الحالين فهذا ليس مثالاً جيداً لتخطئة مواقف العلماء في الوقت الحاضر، ولابد من تذكير الشيخ أن الأوقاف الجعفرية أنشئت في العام 1927، وأن الظروف الماضية متعلقة بوجود وسيطرة المستعمر، ولم تكن البلاد ولا أهلها يمتلكون قراراتهم ومصيرهم.

ثم جاءت فترة السبعينات وما استتبع صدور وتطبيق قانون «أمن الدولة»، وفي هذه الفترة وحتى لحظة إلغائه، فقد الشعب الكثير من المكتسبات، وفُرض عليه الكثير من القوانين المتعسفة... وحتى إشهار المجلس الإسلامي الأعلى، فقد تم في فترة وجود قانون أمن الدولة كما هو معلوم للجميع.

ومثال آخر ضربه الشيخ لتضييع العلماء الفرص، هو تحريم العمل بالقضاء في الفترة السابقة، وهو مرة أخرى يتحدث بعيداً عن ظروف تلك الفترة، فلقد كان للعلماء حينها مكانة كبيرة في نفوس الناس، وخصوصاً أهل القرى الذين يشكلون غالبية السكان، إذ تعتمد الغالبية على الزراعة قبل اكتشاف النفط في مطلع الثلاثينات. وكان الخلاف يجد طريقه للحل في جلسة أو جلستين مع أحد علماء المنطقة، لاتسام الناس بالنزاهة والتقوى، وما حدث فيما بعد التحوّل التدريجي في حياة الناس حتى بدأ الكثير يسعى ليكون الحق بجانبه بالاستعانة بالدولة وقضائها، فكان لابد لبعض المخلصين من التحرك لسد شيء من الفجوة، وكان الشيخ عبدالأمير الجمري، دخل سلك القضاء بعد أخذه أكثر من إجازة من مراجع الدين، وهذا ما سمعته بنفسي في مجلسه قبل ما يقارب 23 عاماً، وقد تعرض الشيخ للنقد من البعض. وأمّا الدخول في سلك القضاء حالياً، فلم أجد من كبار العلماء من يمانع من العمل بالقضاء ما دام يتوافر على الكفاءة إضافة إلى عامل التقوى، وهذا ما صرّح به الشيخ عيسى قاسم في إحدى خطب الجمعة في الأشهر القليلة الماضية. ومنطلق هذا، لمجرد درء بعض المفاسد، وأمّا الإصلاح من الداخل فيحتاج إلى إطار أكبر للتحرك، وأمّا أن تُوضع في سقف أدنى من طولك، بحيث تمشي محدودب الظهر، فهذا لن ينتج إصلاحاً في القضاء، والشيخ المبارك يعلم جيّداً أن من أسباب استقالة الشيخ علي العريبي، وربما أيضاً الشيخ عبدالحسين العريبي، ما يتعلق بعدم إمكان التغيير والإصلاح بما ينبغي، وهذا ما لمّح له علي العريبي في ندوة «الحركات الإسلامية والتطرف» بمجلس الشيخ الجمري، بتاريخ 28 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وكذلك ما صرّح به الشيخ عبدالحسين العريبي لصحيفة «الوسط» بتاريخ 25 من الشهر نفسه، إذ قال بالحرف الواحد: «نحن لم ندخل إلى سلك القضاء إلا لتطوير القضاء وتحديثه وليس من أجل المال والرواتب، ولكن يبدو أنه لا يمكننا فعل ذلك وهذا أمر لا نتحمله».

وفيما يتعلق بالمجلس الإسلامي الأعلى، فإن القضية تتعلق برفض التدخّل في الخصوصيات المذهبية أساساً، لذلك لا يمكن للعلماء إقرار نظام أساسي للمجلس مادام لا يقبل باستبعاد هذه المسألة من عمله ودوره، وما يبقى بعد ذلك يمكن اعتبار المجلس مؤسسة حكومية كأية مؤسسة، يمكن أن يتعامل معها العلماء، ومن دون الحاجة إلى التدخل فيه وعرض مرئياتهم، وهذا ما ذكره الشيخ عيسى قاسم في أكثر من خطبة.

ويجدر التوقّف مع الشيخ حميد بخصوص فتاوى الفقهاء في شأن المجلس الإسلامي الأعلى، إذ إن الشيخ يعتبر تلك الفتاوى، فتاوى كلّية بقوله: «إما قضية الفتاوى ضده فتحتاج إلى تأمل، فلو كتبت إلى فقيه تقول له سنفعل مشروعاً الهدف منه هدم الدين، فماذا سيكون جوابه؟ طبعاً سيقول لك: لا يجوز، ولو كتبت له أن المشروع سيخدم الدين سيقول لك: يجوز، لأن الفتوى الدينية تنظر إلى الحكم الديني، الكلي، ولكن ما هو الشيء الذي ينفع ويخدم الدين أو يهدمه فإن ذلك يتبع التشخيص على الأرض. ولذلك، فلا ينبغي أن نغلق الباب أمام الحوار وأمام دراسة الواقع المعقد بفتاوى». وهل كان سماحته غافلاً عندما يقول ذلك، والفتاوى لم تصدر بهذه البساطة، ولم تكن جواباً عن سؤال افتراضي بأن هناك مشروعاً لهدم الدّين، فيأتي الجواب كلّيا بالحرمة، بل تم إرفاق النظام الأساسي للمجلس ودوره المنوط به، ثم جاء دور الأسئلة التي وُجّهت إلى الفقهاء، وهي لم تكن أسئلة افتراضية كما ذهب لذلك الشيخ. ثم إنّ النظام الأساسي للمجلس، حتى لو قبلت الحكومة بتغييره حالياً، فما الذي يضمن عدم تعديله مستقبلاً، ذلك أنّ الأعضاء يتم تعيينهم، فهل يصح أن يقوم العلماء بإصباغ الشرعية على عمل المجلس في ظل آليات لا تسمح لهم بدور فعلي إلاّ بإرادة الحكومة؟

لقد فرح بعض العلماء في بعض البلاد العربية، عندما سمحت لهم السلطات العلمانية بصوغ قانون للأحوال الشخصية، فجاء في بدايته موافقاً للشريعة الإسلامية، ولكن آليات التبديل والتغيير لم تلبث أن فعلت فعلها، فأصبح القانون يتناقض في كثير من بنوده مع الشريعة الإسلامية، ومازال التبديل مستمراً في ظل سيطرة السلطة التنفيذية على باقي السلطات، بما فيها السلطة التشريعية.

ولابد من تذكير الشيخ حميد المبارك، بأنّ الآلية التي تم بها تعيين الشيخ الجمري في سلك القضاء، هذه الآلية نفسها التي تم بها عزله، وتم تعيين الكثير ممن لا يتوافرون على الكفاءة والأمانة، وهما أهم عنصرين في التوظيف بشكل عام، لقول الإمام علي (ع) لبعض ولاته: «لا تقبلن في استعمال عمالك وأمرائك شفاعة إلاّ شفاعة الكفاية والأمانة»، وعندما لا يكون التعيين وفق هذين الشرطين، فكيف يحق لنا لوم العلماء بما ليس بأيديهم؟

وكون الحكومة ذات نفس طويل كما يقول الشيخ، هذا لا يعني أن يدخل العلماء من الصف الأول في مشروعاتها، فيسبغون على مشروعاتها شرعية تبقى مع انعدام وجود أدنى مستويات ضمان بقاء هذه المؤسسة في إطار الشريعة الإسلامية، في أدوارها ونظامها.

وأما في مسألة الفرض الذي ستلجأ إليه الحكومة كما أشار إلى ذلك الشيخ، فهذا منطلق القوة، وقديما قيل إنّ القسر لا يدوم، والتجارب خير شاهد، والرفض يمكن أن يستمر ويثمر كما علمتنا التجارب، وقد يحدث الله أمراً يكون فيه ما يحب ويرضى. وأجد من حقي أن أستوضح الشيخ، وهو يعيب على العلماء الغمامية وانعدام التخطيط، هل قدّم مشروعاً ورؤية متكاملة، عن المجلس الإسلامي الأعلى مثلاً؟ وإن كان كذلك، فلماذا لم يجد من العلماء الأكفاء من ينهض معه ويسانده أعباء ذلك؟

وأما وصف موقف العلماء بأنه الهروب إلى الأسهل، فهذا عجيب، كيف يكون الأسهل وهو الذي يفّر عن دفع ضريبته الكثيرون، وهل التخطيط المطلوب، والذي أشار إليه، الاستسلام لكل مشروع تقدم عليه الحكومة، والمشاركة في إشادته وتثبيته وإن كان فيه قصم ظهر الدين؟ وملاحظة مقتضى السنن والأسباب لا تؤدي عند كل الناس إلى تبني موقف الموافقة المريحة، وربما المريحة مادياً. إن مخاطبة الجمهور بما يوحي بافتقاد العلماء للتخطيط وغيرها من كلمات كبيرة، قد يؤدي إلى تضعيف الثقة في العلماء، ويمهد لفصلهم عن التأثير على الساحة، في وقت تزداد فيه الساحة - وخصوصاً منها الشيعية - حاجة إلى قيادة اجتماعية دينية تضبط وقع الساحة في ظل تحركات من كل حدب وصوب، وخصوصاً إرهاصات التجاذبات السياسية. إن هؤلاء العلماء الذين نشير إليهم كمرجعية للساحة لم يركبوا موجة حماس لتحملهم إلى قمة السنام، ولو كان كذلك لأسقطتهم في الحضيض وهي ترتطم بالسطح، إنّما حفروا مكانتهم بعملهم الدؤوب، وإخلاصهم في الدفاع عن الإسلام وتبنيهم لقضايا الناس وحمل همومهم، منسجماً حالهم مع قول أمير المؤمنين (ع) في كتابه لواليه على مصر مالك الأشتر: «وإنما يُستدلُّ على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده»، فهل نقوّض مكانة هؤلاء تحت دعاوى النقد، فيصبح زمام الساحة متاحاً لكل موتور ومأزوم؟

وأخيراً، علينا جميعاً السعي لإصلاح الأخطاء، والنأي بأنفسنا عن هدم بناء قوي أثبتت الأيام صلابته، وما حفظ الدين في قلوبنا إلى يومنا هذا سوى نتاج جهود هذه الثلة التي قيّضها الله لحفظ الدين، وطالما ذكّرت الكثير من الشباب وفي أكثر من مجلس، بأن انتفاضة التسعينات ما كانت لتبقى أكثر من أسابيع معدودة، لولا تصدي رجل من الوزن الثقيل لها. وكان الشيخ الجمري دفع ضريبة معارضة أخطاء السلطة غالياً حتى قبل انتفاضة التسعينات، وأذكر عندما كان أحد الأدقاء يودِّع الشيخ مسافراً، قال له الشيخ: «اطلب من الله أن يجمع لي شملي»، إذ كان أولاد الشيخ آنذاك بين مهجّر ومسجون. هؤلاء العلماء الذين يعطون ولا يأخذون، فما أحرانا أن نسدّدهم بالنصح الهادئ الذي يعينهم على الإصلاح، وهذا ما يعتبره الإمام علي (ع) حقاً له على الأمة، مبالغة في تعليمهم وتعليم الحكام على الاستماع للنصيحة، فيقول: «وأما حقي عليكم (...) والنصيحة في المشهد والمغيب»، لا أن نربكهم ونعوق حركتهم ونحبس عليهم أنفاسهم، فلا يقدمون خوفاً من زلّة يستغّلها البعض للنكاية بهم. وأكرر هنا كلمة جميلة لياسر عرفات: «إللي تعبان يذهب بيته ويستريح». فإذا كنّا مصابين باليأس، فلنكتفي بتقديم النصح الخالص إلى العلماء المتصدين لشئون الساحة، أمّا التدخل بما يفت من عضدهم، فهذا أمر غريب أستبعده عن الشيخ حميد المبارك، ونتمنى أن يُسمِع الشيخ الجميع رأيه من على هذا المنبر.

كاتب بحريني

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 811 - الأربعاء 24 نوفمبر 2004م الموافق 11 شوال 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً