لمدة طويلة ظهرت بوادر ارتباك على سياسة سورية الخارجية، وتجلى هذا الارتباك أكثر ما يمكن أن يكون في سياستها ازاء دول الجوار، وباستثناء السياسة السورية حيال تركيا جارتها في الشمال، فقد اصاب الالتباس السياسة السورية المتصلة بالعراق والاردن ولبنان، اضافة الى ما اعترض سياسة دمشق في الرد على سياسات «إسرائيل» حيال سورية وخصوصاً بعد العدوان الاسرائيلي على منطقة عين الصاحب في العام الماضي.
ولا يمكن فصل حال ارتباك سياسة دمشق الاقليمية عما يصيب سياستها الدولية من ارتباكات مماثلة، أدت في بعض الحالات الى مشكلات مزدوجة اخذت بعدين اقليمياً ودولياً على نحو ما كانت عليه السياسة السورية في الموضوعين العراقي واللبناني، ما رتب على سورية اعباء سياسية متزايدة، كان مثالها في العراق خسارة سورية لجزء من علاقاتها العراقية بفعل تردد مواقفها، واضيفت هذه الخسارة الى خلاف سورية مع الحكومة العراقية المؤقتة وعداء السياسية الاميركية لدمشق، وهي حال تماثل نتيجة التدخل السوري في لبنان لتجديد ولاية الرئيس اميل لحود، وقد ترتب عليه توسيع جبهة معارضي سورية في لبنان، وانضمام فرنسا الى معارضي الوجود السوري هناك، وعودة واشنطن لتحريك الملف السوري في لبنان، وهو ملف كانت واشنطن قد خففت حضورها فيه.
وارتباكات سياسة سورية الخارجية في البعدين الاقليمي والدولي، هي محصلة عوامل متعددة، قد يكون الاهم فيها ضعف مركز صنع القرار السوري، وهو ضعف قد يكون ناتجاً عن غياب استراتيجية سياسية مرسومة تبين موقف دمشق وموقعها على الخريطة الاقليمية والدولية، كما قد يكون الضعف ناتجاً عن تعددية في مركز صنع القرار، وغياب لتنسيق القرارات واخراجها موحدة متناسقة، كما قد يكون بين الاسباب غياب للمعطيات الواقعية، وللتقديرات الموضوعية التي تساعد في اتخاذ قرارات صائبة، ويكون الامر في النهاية هو تداخل بين اسباب متعددة.
ويبدو ان الآثار السلبية لارتباكات السياسة السورية والضغوط الناجمة عن هذه الارتباكات، دفعت دمشق لتحرك سياسي هدفه اعادة ترتيب سياساتها الخارجية بالتركيز على البعد الاقليمي أولاً، وما اتصل به من علاقات دولية، وهو تحرك يمكن القول إن ثماره بدأت في الظهور. فمن خلال تحسن ملموس لعلاقات دمشق مع محيطها، حيث تتحسن العلاقات السورية - العراقية، ومثلها العلاقات السورية - الفلسطينية، وقد وضعت العلاقات السورية - الأردنية على قاعدة حل مشكلاتها الامنية، وما يتصل بها من خلاف على أراضٍ بين الجانبين، وهناك تسريبات بان دمشق تعد العدة لـ «انسحاب سوري هادئ» من لبنان، وهو أمرٌ من شأنه التخفيف من الاشكالات الناتجة عن استمرار الوجود السوري في لبنان في ابعادها المحلية والاقليمية والدولية.
إن تعبيرات هذا التحسّن في سياسة سورية الاقليمية، جاءت نتيجة جهد تشاركت وتداخلت فيه مراكز سورية متعددة مقررة ومؤثرة في دائرة صنع القرار، حيث شاركت في النقاش عن العلاقات السورية - العراقية في خلال زيارات تكررت من مسئولين عراقيين بينهم رئيس وزراء الحكومة المؤقتة اياد علاوي ووزير داخليته، نتج عنها توافقات عدة كان الاهم فيها توافق أمني بشأن الحدود السورية - العراقية ومنع التسلل عبرها، وقد أدارت الجهات السورية ذاتها المحادثات مع رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيس حركة فتح فاروق القدومي في زيارته الأخيرة لدمشق والهادفة الى تطوير العلاقات السورية - الفلسطينية والتهيئة لزيارة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية والرئيس المتوقع للسلطة الفلسطينية محمود عباس الى دمشق.
والتقدم الحاصل والمنتظر في العلاقات السورية - الفلسطينية، ليس فقط ثمرة جو ايجابي اشيع عن علاقات الطرفين في السنوات الاخيرة، واحبط الحصار الاسرائيلي للرئيس عرفات في رام الله تطوره، بل هو أيضاً ثمرة مشاركة الرئيس الاسد في تشييع الرئيس عرفات في القاهرة، ونتيجة الخطاب الاعلامي السوري المتوازن في الموضوع الفلسطيني وفي رحيل عرفات.
وكما هو واضح، فان الجهد السوري الايجابي نحو الجوار العراقي - الفلسطيني - الاردني، انما يتكامل مع تحرك الدبلوماسية السورية باتجاه مصر وتركيا وايران عشية انعقاد المؤتمر الدولي الخاص بالعراق في شرم الشيخ، وبفعل هذه الحركة حصل توافق سوري - تركي - ايراني لموقف موحد في المؤتمر، ركز على وحدة العراق وضرورة وضع جدول زمني لانسحاب القوات الاجنبية منه، واجراء انتخابات حرة ونزيهة وفي كل المناطق، وهو توافق عزز فرصة تقارب في وجهات نظر متصارعة داخل المؤتمر للوصول الى توافق دولي.
إن من شأن التوافق السوري - التركي - الايراني بشأن العراق عشية انعقاد مؤتمر شرم الشيخ، لا ان يعزز علاقات سورية مع كل من ايران وتركيا، التي يمكن القول انها علاقات تقليدية قوية ومهمة، بل ان من شأن هذا التوافق اقامة تقارب اوسع في البعدين الاقليمي والدولي الى جانب تعزيزه علاقات سورية مع الحكومة العراقية، وتخفيف حدة الضغوط الاميركية على سورية. واذا اخذت سورية خطوتها المتوقعة في الانسحاب القريب من لبنان، فان ذلك قد يعيد الدفء الى العلاقات السورية - الفرنسية، التي تأزمت في ضوء قرار مجلس الأمن 1559 الخاص بالوجود السوري في لبنان.
ان الانعكاسات الايجابية للحركة السياسية السورية الاخيرة بحاجة الى متابعة، بل هي بحاجة لان تصير نهجاً ثابتاً ومنظماً وموحداً لمركز صنع القرار السوري، يمكن أن يؤدي الى تجاوز الارتباكات التي بدت عليها سياسة دمشق في الفترة الاخيرة، ويمكن ان ينقل هذه السياسة من دائرة الرد على ما تطرحه التطورات، الى المشاركة في صنعها
العدد 810 - الثلثاء 23 نوفمبر 2004م الموافق 10 شوال 1425هـ