اختار الرئيس الأميركي جورج بوش، أن يبعث «بعيدية» مناسبة، إلى العراقيين خصوصاً وإلى العرب عموماً، فدمر الفلوجة تدميراً وحشياً على رؤوس من تبقى من أبنائها.
فبعد نجاحه في انتخابات الرئاسة لفترة ثانية، بأيام قلائل، بدأ الهجوم على الفلوجة العراقية، بحجة القضاء على «الإرهابيين والمرتزقة الأجانب» الذين يقاتلون تحت قيادة الشبح «أبومصعب الزرقاوي»، بلغ الهجوم ذروته يوم عيد الفطر المبارك، وانتهى عملياً فيما بعد بانتصار القوة المفرطة التي مارستها القوات الأميركية بكل أنواع الأسلحة التقليدية، وربما غير التقليدية!
وأمامنا الآن نتيجة ورسالة، علينا أن نتعرف على ما فيهما من معان... أما النتيجة فهي أن جيش الاحتلال الأميركي، المسلح بأحدث ترسانات الأسلحة وأكثرها تقدماً، نفذ أوامر قيادته العليا، بتحويل الفلوجة، من رمز للمقاومة الوطنية العراقية، إلى مقبرة كبرى لكل الأشخاص والأفكار والاتجاهات التي تتحدى إرادة الاحتلال وسياسة المحتل الأميركي، هكذا تذكرنا الفلوجة المدمرة، بوارسو البولندية التي دمرها النازي، أو بدرسون الألمانية التي دمرها الحلفاء بقيادة أميركا في الحرب العالمية الثانية، وقد أراد كل من الفرعين أن يفرض على الآخر روح الانكسار، ربما قبل الأوان... وهو أمر حاول السفاح شارون تكراره في جنين الفلسطينية.
وكتبت أمامنا الرسالة، التي أراد المحتل الأميركي للعراق توجيهها إلى العراقيين وإلى كل العرب العاربة والمستعربة، وهي أن فترة الرئاسة الثانية للرئيس بوش لن تكون كالأولى، فقد تغيرت أفكار وآراء، تحتم تغييراً في الأشخاص والسياسات، وهو أمر بدأ فعلاً يظهر واضحاً خلال الأيام القليلة الماضية، حاملاً معه رياح التغيير في الفكر والسياسة الأميركية، تقوم على أساس فلسفة القوة وحدها هي التي تحكم وتسود، وسياسة التشدد هي وحدها التي تطبق.
والأمر المؤكد أن العالم كله سيتأثر سلباً على الأرجح بمثل هذه الفلسفة السياسية المتشددة، لكننا نحن في الشرق الأوسط عموماً، والعرب خصوصاً، ومصر تحديداً سنكون الأكثر تأثراً ووقوعاً تحت مطرقة هذا التشدد المنفلت والمنتظر من جانبي الإدارة الأميركية الجديدة بكل رموزها اليمينية المتطرفة... والسبب أننا أصحاب أخطر المشكلات المعقدة المثارة الآن، والموضوعة على جدول أعمال هذه الإدارة الجديدة، من فلسطين إلى العراق، ومن دارفور وجنوب السودان إلى سورية ولبنان، ومن صراع الصحراء الغربية والتوتر بين المغرب والجزائر، إلى سحابات التوتر فوق الخليج إذ مخزون النفط الهائل من ناحية، وإذ أزمة التصنيع النووي الإيراني من ناحية أخرى، وبين هذا كله وذاك تأتي مشكلة الإرهاب وضرورات الإصلاح الديمقراطي في المنتصف.
وإذا كانت هذه هي المشكلات الدولية والإقليمية الرئيسية المثارة الآن في العالم، فإن القبضة الحديد الأميركية، تمارس فيها الضرب واللعب منفردة، منتقلة مع انتقال الإدارة الجديدة إلى الفترة الرئاسية الثانية، من الضرب الخفيف إلى الضرب العنيف، ولذلك كانت حرب تدمير الفلوجة العراقية بهذه الشراسة مجرد رسالة أولية إلى كل من يهمه الأمر شرقاً وغرباً، بصرف النظر عن الاستياء العربي الرسمي الخجول، والاستنكار الشعبي المعلن الذي يزداد يوماً بعد يوم، عداء وكراهية لمثل هذه السياسة الأميركية المنفلتة.
والحقيقة التي يجب أن نصارح أنفسنا بها، هي أن السنوات الأربع المقبلة، قد تكون هي الأصعب والأقسى، في مسيرة العلاقات مع أميركا الجديدة، ونعني مع الإدارة الجديدة التي أفرزتها انتخابات الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، والتي تحتاج إلى قراءة جيدة ودراسة جادة، لاستكشاف معانيها وسبر أغوارها، حتى لا نظل عائمين فوق موجات من الوهم، يغرقنا في وهمها تحالف المتأمركين العرب، المروجين بقوة لعصر السيادة الأميركية وقيمها المتشددة!
فعلى نقيض ما نسمعه ونقرأه لمعظم هؤلاء المتأمركين العرب، فإن الأميركيين العاديين أصبحوا أكثر قلقاً على مستقبل بلادهم، بل أكثر خوفاً على «الحلم الديمقراطي الأميركي» نتيجة الصعود الهائل لتيارات التشدد اليميني والتطرف السياسي والديني، الذي يقوده المحافظون الجدد، الذين أصبحوا وحدهم القوة المهيمنة على صناعة القرارات وتشكيل السياسات في ظل الإدارة الجديدة، وبدرجة أشد وأعنف، مما كان الحال عليه في الفترة الرئاسية الأولى للرئيس بوش 2002 - 2004.
صحيح أن «المحافظين الجدد» بزعامة نائب الرئيس ديك تشيني، ووزير الدفاع رامسفيلد ونائبه وولفوفيتز، وباقي المجموعة، كانوا هم الأكثر بروزاً في الفترة الرئاسية الأولى، لكنهم لم يكونوا وحدهم، أما في الفترة الرئاسية الثانية فقد أصبحوا فعلاً وحدهم أصحاب القول والفعل، بعد أن تم تطهير البيت من «عملاء اليسار الليبراليين»، مثل وزير الخارجية المستقيل كولن باول، رمز الحمائم الذي ظل لسنوات أربع يمثل تيار الاعتدال والواقعية، في مواجهة تيار الصقور المتشددين.
وليس الأمر هو أمر تغيير شخص وزير الخارجية باول، والإتيان بكوندوليزا رايس مكانه، وهي الأميل إلى المتشددين، ولكن الأمر يؤشر إلى أن مجرد اختلاف الآراء، بين تيارين بشأن السياسة الخارجية والدفاعية، لم يعد مقبولاً من الآن فصاعداً، ولكن ثمة تياراً واحداً هو الذي سيحكم ويطبق فلسفته فيما يتعلق بأزمات العالم وصراعاته، وخصوصاً تلك الملتهبة في «الشرق الأوسط».
أيضاً، ليس الأمر هو فوز الرئيس بوش على منافسه الديمقراطي، بفترة ولاية ثانية، بغالبية واضحة، سواءً في التصويت الشعبي أو في تصويت المجمعات الانتخابية، لكن الأمر الأخطر، هو أن انتخابات الثاني من نوفمبر 2004، تؤشر إلى تحولات سياسية فكرية اجتماعية عميقة في المجتمع الأميركي، بحكم ما أفرزته من نتائج سواء على مستوى انتخاب الرئيس، أو انتخابات «الكونغرس» بمجلسيه - الشيوخ والنواب - والتي حققت للجمهوريين اليمينيين سيطرة كاملة عليهما.
وعند التحليل الأعمق، نكتشف أن هذه الانتخابات أعطت للحزب الجمهوري أعلى تفويض شعبي وبرلماني وبغالبية كبيرة، بحكم فوز الرئيس من ناحية، وبحكم أفخم نصر للجمهوريين في «الكونغرس» منذ عشرات السنين للمرة الثانية على التوالي، الأمر الذي يعبّر بوضوح عن انتصار هائل لأجندة «المحافظين الجدد» وسياساتهم اليمينية المتشددة، ما يطلق أيديهم خلال السنوات المقبلة، بلا ضابط صارم.
ويلفت النظر عند التحليل الأعمق أيضاً، الى أن الانتخابات الأخيرة هذه، أحدثت انقساماً حاداً في المجتمع الأميركي، ربما هو الأعمق في مئة السنة الأخيرة، كما قال عدد معتبر من المفكرين والمحللين الأميركيين، وهو انقسام ليس سياسياً فقط، بين الحزبين المسيطرين، الجمهوري والديمقراطي، ولكنه أيضاً انقسام اجتماعي ديني فكري بين تيار يعتمد على قاعدة دينية كنسبة محافظة، تساندها تحالفات كبار رجال الصناعة، التجارة، المال والاحتكارات، تميل إلى التشدد بل إلى التطرف، وتيار آخر يعتمد على قاعدة ليبرالية منفتحة تميل إلى فصل الدين عن السياسة، تساندها الأقليات الدينية والعرقية مثل الزنوج، العرب، اليهود، الهسبانكس، المرأة ونقابات العمال، وكلها تميل إلى الانفتاح والحوار والحرية الفردية.
والدليل أن 52 في المئة من الكاثوليك الملتزمين مثلاً صوّتوا لصالح بوش والجمهوريين، في مقابل تصويت 51 في المئة من النساء، و74 في المئة من اليهود، و88 في المئة من الزنوج، و58 في المئة من الهسبانكس، ومعظم الأصوات العربية والمسلمة لصالح المرشح الديمقراطي جون كيري، إلا أن قراءة الخريطة التصويتية تظهر بوضوح أن نجاح الرئيس بوش وجماعة المحافظين الجدد، قد تحقق بفضل التصويت الغلاب في ولايات ما يعرف «بالحزام الانجيلي» المسيطر على ولايات الجنوب الوسط والغرب الأشد ميلاً إلى اليمين المحافظ الملتزم دينياً.
في حين صوّتت المدن الرئيسية والولايات التي يمكن أن نطلق عليها - في المقابل - «الحزام الليبرالي» لصالح المرشح الديمقراطي، وخصوصاً ولايات الساحل الشرقي، مثل نيويورك، واشنطن وبوسطن، المعروفة بالانفتاح الفكري والنشاط الثقافي والوجه الحضاري لأميركا، الأكثر انفتاحاً على أوروبا والعالم.
هكذا يبدو الانقسام الأميركي واضحاً، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بالدين والمعتقدات الدينية، وليس فقط بالمبادئ والأفكار السياسية، ففي حين تراجعت التيارات الليبرالية التي تفصل الدين عن الدولة، وتؤمن بالحرية الفردية والدينية، صعدت إلى قمة القيادة والسيادة تيارات محافظة بل متشددة، تضفي الصبغة الدينية على العمل السياسي والفكري في الداخل كما في الخارج، انطلاقاً من إيمان بعض الكنائس، وخصوصاً البروتستانتية، بنبوءات توراتية قديمة، توحد بين الأهداف المسيحية واليهودية، فيما أصبح يعرف نظرياً بالمسيحية الصهيونية الجديدة، الأمر الذي يتناقض تناقضاً كاملاً مع الدستور والمبادئ والقيم الديمقراطية الأميركية!
والمؤكد أن نجاح هذه التيارات المتطرفة، وعلى رأسها جماعات المحافظين الجدد، والقرن الأميركي، وبهذا التفويض التصويتي الملحوظ، يؤكد بروز حقيقتين هما:
- أولاً: إن فكر «طالبان» قد نقل عدواه من أفغانستان شرقاً إلى أميركا غرباً، فقد أصبحت «طالبان الأميركية» على قمة السلطة في بلد الحكم الديمقراطي، في وقت يحارب فيه هذا البلد «طالبان الأفغانية» بحجة كسر موجات التطرف الديني والهجوم الإرهابي... وثمة من يلاحظ أن نسيج التطرف ورموز التشدد، يمتد بين الجانبين المستندين إلى أسس عقائدية دينية مغلقة ومحافظة، ونحن بين الاثنين نتلظى ونحترق!
- ثانياً: إن صعود هذا التيار الطالباني الأميركي إلى قمة السلطة، يقلق بلا شك أنصار الديمقراطية والانفتاح الأميركي، لكنه يهدد بدرجة أخطر القيم والصدقية الأميركية في العالم، وينعكس بكل الخطورة على أوضاعنا نحن، لأنه بوضوح تيار سياسي ديني يخدم «إسرائيل» والفكرة الصهيونية والدولة «اليهودية» الدينية التوراتية القابعة في عمق أعماق جماعة المحافظين الجدد.
من هنا جاءت الإشارات الخطيرة التي أطلقتها إد
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 810 - الثلثاء 23 نوفمبر 2004م الموافق 10 شوال 1425هـ