ثمة مفارقات تسيطر على الوضع العراقي. وهذه المفارقات بدأت تلعب بالمصطلحات العامة التي تشير إلى اتجاهات مختلفة. فالكلام مثلاً عن وحدة العراق وسيادته واستقلاله لا معنى له إذا لم تتفق الأطراف على تحديد مفاهيم موحدة للدلالة على تلك المصطلحات.
في قمة شرم الشيخ أيضاً، جرى تأكيد تلك المصطلحات العامة وتفاهمت الأطراف المشاركة على صيغ إنشائية ترضي كل الفئات ولا تغضب الجهات المعنية بالموضوع أمنياً وسياسياً. فالكلام عن العراق الموحد الحر والسعيد صاحب السيادة والاستقلال اشترك الجميع في ترداده في وقت استبعدت من القاموس المعاني التي تحدد تلك المصطلحات من نوع «العروبة» و«الإسلام» وغيرهما من إشارات تعطي مضامين تختلف عليها جهات محلية وإقليمية. وعلى القياس نفسه يمكن سحب مختلف الكلام العام الذي يقول الأفكار العامة ويتجنب الخوض في التفصيلات حتى لا تنكشف الجوانب الحقيقية لكل مصطلح.
هذا النوع من البيانات العامة يمكن أن يخدم إلى فترة وجيزة ولكنه مع طول الوقت، يتحول إلى حواجز سياسية تعطل إمكانات الحوار المباشر مع الأطراف المعنية فعلاً بالاستقلال والسيادة وخروج القوات الأجنبية وعودة العراق حراً إلى الجامعة العربية.
ترداد المصطلحات الإنشائية لا يعني أبداً أن العراق لا يعاني من مشكلات اجتماعية أخذت تحفر الخنادق بين أبناء الوطن الواحد والدولة الواحدة. وبقاء هذا النوع من اللغة السياسية في التخاطب لا يساعد على احتواء التداعيات، بل ربما يؤدي إلى نوع من التصادم الأهلي مهما كابر القيّمون على تحاشي الانجرار إلى مثل هذه الهاوية المدمرة التي يخطط لها الاحتلال منذ زمن طويل.
في العراق هناك مشكلات كثيرة. وبعض تلك المشكلات مضى عليها الوقت الطويل وجاء الاحتلال ليصب الزيت على الجمر أملاً في أن تلتهب نيران الطوائف والمذاهب والمناطق والقبائل فيتذرع بها لتبرير وجوده واستمراره في السيطرة على ثروات البلاد.
حتى الآن تنفي مختلف الأطراف العراقية وجود مشكلات طائفية وتفرقة مذهبية تفصل بين المناطق والأطراف والأقوام والقبائل، إلا ان هذا النفي لا يلغي الوقائع الجارية على الأرض وكلها تتجه، للأسف الشديد، إلى حال من الاحتقان الطائفي والمذهبي والمناطقي.
كلام الإنشاء لا يفيد. كذلك الغرق في مصطلحات عامة تتحدث عن البديهيات لا يساعد كثيراً في حل مشكلات موجودة فاقم الاحتلال من نعراتها توخياً للوصول إلى أزمة أهلية يصعب استيعابها وضبطها ضمن حدود القانون وتوازن المصالح.
هذا النوع من المشكلات يصعب احتواء تداعياتها بإصدار بيانات إنشائية وتصريحات تعتمد البلاغة اللغوية وتتهرب من مواجهة الوقائع بعقلانية سياسية تعترف بالأزمة وتضع لها الحلول السريعة والمؤقتة والبعيدة المدى.
الاعتراف بالمشكلات يقلل كثيراً من احتمالات الأزمة بينما تجاهل الوقائع والدفع باتجاه تجاوز الحقائق بالغرق في مصطلحات عامة تتحدث عن السيادة والاستقلال والوحدة يسهل على «المصطادين» اغتنام الفرصة لتمرير مشروعات تهدف إلى تفكيك الدولة وتقسيم البلاد وتبرير وجود الاحتلال وتغطية تصرفاته وتأمين مصالحه.
العراق الآن يواجه مشكلات كثيرة كشفها الاحتلال ويعمد إلى زيادتها ورفع نسبة حدتها حتى يضمن وجوده ويتذرع بها لتمديد وجوده العسكري إلى أطول فترة ممكنة. والاستمرار في استخدام الكلام المعسول عن الأخوّة والتضامن ووحدة المصير لا يفيد إذا لم تتفاهم الأطراف المعنية على صياغات محددة لتلك المصطلحات العامة.
الانتقال من العام إلى الخاص مسألة مهمة لأنها تحدد الأطر والوسائل وبرنامج العمل والتوقيت وحدود تطابق المصالح ونسب الاختلاف. فالخاص في هذا المعنى يحدد المضمون المقصود لمفردات السيادة والاستقلال والوحدة كذلك يساعد على توضيح صورة المواقف من قضايا مشتركة وفي طليعتها الموقف من الاحتلال والاتفاق على توقيت محدد لخروجه سلماً أوعنوة.
إلى الموقف من الاحتلال هناك مسألة إعادة هيكلة الدولة دستورياً وبالتالي تحديد الخطوات العملية (الميدانية) لإعادة انتاجها أو لإعادة تأسيسها.
الاتفاق العام على السيادة والاستقلال والوحدة مهم ولكنه يكتسب أهمية أكبر إذا خرج الكلام من العام إلى الخاص وحددت الأطراف المعنية بالدولة ومستقبلها المعنى المقصود بالسيادة والاستقلال والوحدة وطرق الوصول إلى تلك الأهداف من دون اقتتال أهلي.
التنافس السياسي مطلوب لتوضيح صورة العراق المركبة والمتعددة ولكن الاقتتال الأهلي هو الخط الأحمر الذي يجب على كل الفرقاء العمل على منعه وهذا لا يتم بالبيانات الإنشائية وإنما بلقاء الأطراف الكبرى في بلاد الرافدين والاتفاق على صيغة (عهد جديد وميثاق شرف) تحدد المشكلات وتضع الحلول لها في إطار برنامج زمني مؤقت وبعيد المدى. أما الكلام المعسول وتوزيع الابتسامات وتوجيه التحيات في شرم الشيخ والانتهاء إلى بيان عام فلا قيمة عملية له لأن كل طرف سيعود إلى مكانه ويستكمل ما بدأ به قبل شرم الشيخ
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 810 - الثلثاء 23 نوفمبر 2004م الموافق 10 شوال 1425هـ