أحد الأفلام القديمة التي عرضت في ثمانينات القرن الماضي - قبل إسدال الستار على نظام الفصل العنصري - كان يروي قصة أحد الأشخاص ذوي اللون الأبيض الذي كان يدعي انه مناصر للمساواة والعدالة وإنهاء التمييز بين «الأسود» و«الأبيض» في جنوب إفريقيا.
لن أسرد قصة الفيلم الطويلة، ولكن سأنتقل الى نهايتها عندما تعرّف هذا الرجل الداعي إلى إنهاء التمييز على شاب أسود، وأثناء العمل مع هذا الشاب وقعت قصة غرام بين بنت الرجل الأبيض (الذي يدعو إلى إنهاء التمييز) والشاب الإفريقي ذي اللون الأسود.
تبدأ محنة كبيرة لهذا الرجل الذي يرفض ان تتزوج ابنته (ذات اللون الأبيض) من الشاب الإفريقي (ذي اللون الأسود).... إذ إنه احتار بين ما كان يدعو له وبين واقع أمامه يتعلق بأعز الناس إليه وهي ابنته التي أرادت ان تتزوج شابا احبته وكان والدها ايضا يقربه حتى اللحظة التي عرف فيها عن قصة الغرام بينهما واقترابهما من عقد القران.
هذه المشاهد من فيلم قديم تعود (بين فترة وأخرى) إلى ذهني لتذكرني بأن هناك مبادئ سامية، وهناك أناس كثيرون يقولون إنهم مع هذه المبادئ، ولكن الامتحان الحقيقي ليس فيما يقولون وانما كيف يتصرفون مع واقع الحياة وخصوصاً عندما يكون هذا الطرف الذي يدّعي «النقاوة السياسية» معنياً بشكل مباشر بالأمر.
ولكنني أعود وأقول، ان مواطني جنوب افريقيا كانوا محظوظين حتى عندما كانت ثقافة الفصل العنصري هي المهيمنة على كل شيء... فالأمور كانت واضحة وضوح الشمس وكان على المرء ان يختار قراره في وضوح ومن دون غموض، لأن نظام جنوب افريقيا السابق لم يكن يدعي النقاوة السياسية من الأساس وكان صريحا في دعواته العنصرية، حتى ان الوضع كان مكتوباً بنص صريح في القوانين.
أناس آخرون - في أماكن أخرى - ربما يكونون أقل حظاً من مواطني جنوب افريقيا، لأن الأمور تتعلق بقضايا مشابهة جداً ولكنها تعيش تحت غيوم تحجب الرؤية وتشوش البصيرة... والامتحان الأكبر هو كيف يحافظ من يدعو إلى المساواة وحقوق الانسان والديمقراطية على توازنه عندما يواجه مشكلة مماثلة للمشكلة التي وقع فيها الرجل الأبيض الذي تحدث عنه الفيلم عن جنوب افريقيا القديمة.
ولعل واحداً من الأجوبة يأتي ايضا من جنوب افريقيا، ولكن ليست القديمة وانما من جنوب افريقيا الجديدة التي رعاها واحد من عباقرة وأبطال السياسة في عصرنا الحاضر (نيلسون مانديلا)...
مانديلا يجيب على سؤال وجهه إليه البعض: كيف استطعت ان تغفر عن الذين عذبوك وسجنوك 27 عاماً بحسب قوانين جنوب افريقيا العنصرية؟ وكان جوابه - ما معناه - ان اولئك لم يكونوا سعداء في حياتهم عندما كانوا يقومون بأعمالهم العنصرية ولذلك فلن أقبل لنفسي أو لغيري تعاسة عيشتهم.
إنني من المؤمنين بأن كل بلد يستحق ان يعيش فيه أهله من دون فروق ومن دون تمييز، سواء كان هذا التمييز مكتوبا (كما كان حال جنوب افريقيا القديمة)، او انه ممارس بالفعل كما هو حال أماكن أخرى. فالنزعات غير السليمة تتخذ أعذاراً هنا وهناك للتنفيس عن نفسها، والمرء مطالب بأن يكون عقلانياً في أشد الظروف، وهو ما نطمح إليه وما نعمل من أجله دائماً وأبداً لأننا أبناء بلد واحد، يجمعنا حب الوطن... الوطن الذي يحتضن الجميع ولا يفرق بين أحد نصاً أو ممارسة
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 810 - الثلثاء 23 نوفمبر 2004م الموافق 10 شوال 1425هـ