تعتمد الأسس التي يتطلبها الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلدان - المتطورة والنامية على حد سواء - على ضرورة الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، كما تعتمد على الشفافية وسهولة الحصول على المعلومات وإشاعة جو من الحريات العامة.
ولعل أهم ما يميز مرحلة الاستقرار هو عدم التداخل في صلاحيات أية سلطة مع صلاحيات الأخرى، ما يخلق الازدواجية التي تربك عمل إحدى السلطات بسبب هيمنة الأخرى عليها وعلى قراراتها، الأمر الذي يفقدها الاستقلالية.
والمشكلة التي نعاني منها في البحرين، هي الازدواجية التي تجعل السلطة التنفيذية تتدخل في كل القرارات الصادرة عن السلطات الأخرى فتعطلها أو تلغيها من خلال إصدار تعميم أو مذكرة تفسيرية تتناسب مع توجه السلطة التنفيذية، بغض النظر عن الضرر الذي تسببه للمواطنين أو الحريات التي تتم مصادرتها، ما يجعل البلد في حال اللااستقرار من الناحيتين السياسية والاقتصادية.
ولعلنا من خلال القراءة المتأنية للتعميمات الصادرة عن ديوان الخدمة المدنية نجد المفارقات العجيبة بين ما يصدر عن السلطة التشريعية القاصرة أساساً، وبين ما تصادره السلطة التنفيذية من حقوق أساسية للمواطنين.
وما يهمنا هنا هو تلكم التعميمات التي تمس مباشرة الحقوق الأساسية للمواطنين أو تلك التي تعطل التشريعات المستمدة من مجمل القوانين الصادرة في البلد، والتي وضعت على أساس العهود والمواثيق الدولية.
فعند قراءة التعميم رقم 5 لسنة 2004م الصادر بتاريخ 31 أكتوبر/ تشرين الأول بشأن مكافأة الأداء السنوي (البونس) لموظفي الخدمة المدنية، والذي وضع أساساً ليكون حافزاً للموظفين ومشجعاً لهم على تطوير مستواهم الوظيفي، نجد أن التعميم جاء ليوجه ضربة قاصمة إلى هذا الهدف ويقنن الإحباطات، وهو ما يمثل الصورة الأكثر جلاء للتداخل الصارخ بين السلطات.
ولعل أبرز ما جاء في التعميم هو النسب المقررة والتي تصادر حق الموظف في الحصول على التقييم المناسب لمهاراته وقدراته مهما اجتهد في تطوير نفسه، إذ عندما يتم تحديد نسبة معينة للحصول على ممتاز، ونسبة أخرى للجيد جداً وهكذا... حتى نصل إلى نسبة غير المرضي التي يجب أن تكون 10 في المئة، وهي تفوق نسبة الممتاز، فإننا نكون قد حددنا سلفاً العدد المطلوب من دون إعطاء أية أهمية لأداء الموظفين خلال العام، وقمنا بمصادرة الهدف الأساسي لصرف هذه المكافأة، وهو تحفيز الموظفين من أجل زيادة الكفاءة وتحسين الأداء.
فلو افترضنا أن قسماً به 100 موظف فإنه يتعين على المسئول إعطاء عشرة موظفين نسبة غير مرضي، مهما يكن أداؤهم ليتم استثناؤهم من علاوة (البونس)، كما أن المرضى الذين يضطرون إلى البقاء في المستشفى لمدة تزيد على عشرة أيام سيتم استثناؤهم كذلك.
الأمر الآخر المثير للاستغراب، هو أن هذه المكافأة التي من المفترض أنها وضعت لتشجيع العمال والموظفين ستذهب معظم موازنتها إلى كبار المسئولين، إذ تشمل الوكلاء والوكلاء المساعدين ومديري الإدارات الذين سيستحوذون على النسبة الأكبر من حالات الامتياز، في الوقت الذي لا يحتاجون في الأساس إلى مثل هذه الحوافز، إذ من المفترض أن يكونوا هم رواد المسئولية ومعلموها في إداراتهم.
ولا ندري ما الذي يمكن أن يقال للموظف المحافظ على الحضور المبكر ويتميز بسلوك وظيفي ممتاز إذا اضطر المسئول المباشر إلى وضعه في خانة (مرضي) أو (غير مرضي) بسبب التقيد بالنسب المقررة في التعميم، وهنا يبرز إشكال التمييز وذلك حين يكون تحت يد المسئول عشرة موظفين مثلاً غالبيتهم يتميزون بالأداء الممتاز والكفاءة العالية، ثم يقوم بالتلاعب بتقييمهم كما يتلاعب بالشطرنج، فهل سيسمح له ضميره بذلك بحجة الالتزام بالتعميم، أم سيرفض التقيد به ليجد نفسه وجهاً لوجه في مواجهة أصحاب الشأن والنفوذ، مضحياً بمستقبله الوظيفي بسبب رفضه التقيد بالقوانين والأنظمة الصادرة التي يمكن أن تدرج تحت البند الثامن من جدول المخالفات والجزاءات الخاص بالانضباط الوظيفي، وهو عصيان الأوامر والتعليمات الخاصة بالعمل التي تصل عقوبتها القصوى إلى الفصل من الخدمة؟
هذا، إلى جانب أن التعميم لم يشر إلى الاستثناءات التي يضطر أصحابها إلى البقاء في المستشفى بسبب ظروف خارجة عن إرادتهم كالمرأة أثناء الحمل والولادة، وهي من الأمور التي لا تملك معها المرأة شيئاً، وكذلك المصابون بأمراض أو إصابات في العمل تضطرهم إلى البقاء فترة تزيد على عشرة أيام.
أما نظام الخدمة المدنية رقم (615) لسنة 2004 بشأن علاوة طبيعة العمل، فقد تم من خلاله استثناء الموظفين الذين يعملون على الدرجة التاسعة ويتعرضون لأخطار بشكل دائم، كما تم استثناء المهندسين مع العلم أنهم يتعرضون مثل غيرهم للأخطار ويدخلون في مواقع الخطر، كما يدخل الآخرون إما بغرض العمل أو الفحص أو الإشراف ويؤثر ذلك عليهم من الناحية النفسية والجسدية خصوصاً مع تعرضهم للحروق في المحطات الفرعية لنقل وتوزيع الكهرباء أو تعرضهم للغازات السامة في أقسام أخرى.
وأما بشأن التعميم الذي أعقب صدور قانون النقابات العمالية رقم (33) لسنة 2004م والذي انطلق من مبادئ ميثاق العمل الوطني في مادته التي تنص على «حرية تكوين الجمعيات الأهلية والعلمية والثقافية والمهنية والنقابات على أسس وطنية ولأهداف مشروعة وبوسائل سلمية وفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها القانون»، وهو بند صريح لا يحتمل التأويل في تشكيل النقابات، إلا أن تعميم ديوان الخدمة المدنية جاء ليوجه ضربة قاصمة للمشروع الإصلاحي ويعزز ازدواجية السلطات ونفوذ السلطة التنفيذية التي باتت حجر عثرة في وجه تنفيذ الكثير من التشريعات والقوانين التي تصب في مصلحة المواطنين.
ففي الوقت الذي يلتقي فيه الملك مع وفد الاتحاد العام لعمال البحرين في 15 يونيو/ حزيران 2003م ويؤكد حق العاملين المخاطبين بأنظمة ديوان الخدمة المدنية في تشكيل نقاباتهم، وكذلك في لقائه عدداً من موظفي القطاع العام في 15 يوليو/ تموز 2003م وتأكيده ذلك الحق وإقرار المجلس النيابي لهذا الحق الأصيل، إلا أن تعميم ديوان الخدمة المدنية جاء ليقطع الطريق ويضع العربة أمام الحصان حتى لا تنطلق.
هذا التعميم في الواقع لم يخالف الميثاق والدستور فحسب، بل خالف مجمل الاتفاقات والمعاهدات والمعايير الدولية التي تسير عليها منظمة العمل الدولية ومنظمة العمل العربية وتتمتع البحرين بعضوية فيهما، إذ يؤكد الاتفاق الدولي رقم (87) المادة الثانية على ما يأتي:
«للعمال ولأصحاب العمل من دون ترخيص مسبق الحق في تكوين منظمات يختارونها»، كما ورد في المادة 3 الفقرة 2: «تمتنع السلطات العامة عن أي تدخل من شأنه أن يقيّد هذا الحق أو أن يعوق ممارسته المشروعة».
تلك نظرة سريعة لبعض التعميمات الصادرة عن ديوان الخدمة المدنية، وفيها تقييد لبعض الحريات التي نأمل من المسئولين إعادة النظر فيها، لأن الهدف الأول والأخير هو المواطن الذي يعد ثروة هذا الوطن
إقرأ أيضا لـ "هاشم سلمان الموسوي"العدد 809 - الإثنين 22 نوفمبر 2004م الموافق 09 شوال 1425هـ