«فكما أن النبتة الصغيرة تحتاج إلى النور والماء والهواء والأفق الفسيح لتنمو وتمتد بأغصانها وأزهارها وثمارها، وكما أن حصر هذه النبتة الصغيرة في حيز ضيق لا يسمح لها بالنمو والامتداد ويعوق نموها ويشوه قوامها، فكذلك الكبت والعبودية ومصادرة حرية الإنسان أغلال وقيود وسجن رهيب بنيت جدرانه داخل الذات من مادة الإرهاب والحقد والتسلط، وليس من الصخور والحديد والأسمنت ليصادر إرادة الإنسان ويعوق نموه ويشوه معنى حياته»... كانت تلك فقرة قرأتها حديثا في كتيب صغير وقع في يدي يتناول مفهوم الحرية وكيف تكون العبودية لله وحده منطلقا لها وقاعدة لتحرير العقل والنفس والسلوك من استعباد الطواغيت والقوانين الجائرة والشهوات والانحراف والعقد النفسية المتحكمة في الإرادة والاختيار.
وعند تلك النبتة الصغيرة لنا هذه الوقفة... إذ ما من شيء في حياتنا يولد كبيراً، كل شيء بدأ ببذرة صغيرة إن وجدت من يرعاها كبرت ونمت وإلا فالموت مصيرها لا محالة... الإنسان ولد من نطفة كبرت وترعرعت في أرحام الأمهات بعناية من الخالق عز وجل حتى إذا ما خرجت إلى الدنيا تشاركت عدة عوامل في رعاية هذا المولود الصغير إلى أن يسلم روحه إلى بارئها ويعود إلى الراعي الأول من جديد.
غالبا ما يبدأ تكوين الذات عند الإنسان بفكرة ماذا أريد أن أكون؟... وهنا قد تأتي الإجابة مترددة ومتفاوتة عند البعض، بينما البعض الآخر - وهو قليل - يلتزم الثبات على حلم واحد يسعى إلى تحقيقه بكل الوسائل ويكرس في سبيله كل طاقاته وإبداعاته.
وهنا يطرح السؤال: لماذا يتذبذب البعض في قراراته بينما البعض الآخر ثابت الخطى على طريق ارتسمه لنفسه لا يود الميل عنه أبدا؟... والإجابة على هذا السؤال قد تدخلنا في مجال مدى واقعية هذا الإنسان أو سفر ذاك في عالم الخيال والأحلام الوردية... فلو سلمنا بأن كل قرار نتخذه يولد بداية على هيئة بذرة تتطلب من يوليها الاهتمام والرعاية، فأين أولئك الذين سيأخذون بأيدينا لتحقيق ما نصبو إليه؟ وإن كافحنا واجتهدنا بأنفسنا وقطعنا شوطا كبيرا في الطريق التي نبتغي السير عليها، فهل سنجد في مرفأ من المرافئ الذي يجب أن نجد فيه من يشاركنا ويعيننا يداً تمتد إلينا فتحافظ على ما أنجزناه وتوصلنا إلى قمة ما نطمح إليه؟
كثيرون هم الذين يلومون الشباب على تخبطهم في اتخاذ قراراتهم ورسم مستقبلهم، وكثيرون من غير الشباب من رسم طريقا مشى فيه خطوات ثم عاد ليبدأ مشواره من جديد مع حلم آخر، وآخرون غيرهم سبحوا مع التيار وسمحوا له بأن يحذفهم على أي شاطئ يبتغيه لهم، وبعيدا عن هؤلاء هناك من خطط ورسم ونفذ ثم هاجر بعقله إلى مكان غير موطنه لأن لا مجال لأمثاله فيه!
وإثر ذلك نستطيع القول إن من يساير التيار السائد فيحذفه في أي مكان، أكثر واقعية من أولئك الذين رسموا طريقهم فتعثروا فيه أو أفادوا بما حققوه أوطانا غير أوطانهم... فمن أراد المكوث في الوطن عليه تجاهل ما يمكن أن يتبادر إلى ذهنه من أحلام ليجد له مكان عمل يتكسب منه ولو القليل من الرزق، أما الآخر فليرحل من دون سؤال أو اكتراث من أحد! إذ هي نبتة لم تجد من يرعاها ممن ولوا أمر رعايتها، فما كان منها إلا الرحيل، فضلا عن الرضا بالنمو في أرض جرداء قاحلة لن تثمر إلا الحنظل!
ومن هنا علمنا أننا حتى في اختيار من نريد أن نكون مقيدون بأغلال المسموح وغير المسموح وواقع السوق والموازنات المحصورة في الأدراج... فأية نبتة ستثمر والراعي لاه بمصالحه وأموره الخاصة، وأي خير سيعم إن أحبطت العقول وأقيم في وجهها ألف سور، وطوقت الرقاب والأيدي بسلاسل من حديد... فليعذرنا الوطن فنحن عنه راحلون
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 809 - الإثنين 22 نوفمبر 2004م الموافق 09 شوال 1425هـ