ثمة إجماع يتنامى على رفض «قانون الجمعيات» و«قانون التجمعات» اللذين مازالا مسودتين ستطرحهما الحكومة على مجلس النواب قريباً. تصريح رئيس لجنة الشئون الخارجية والدفاع بالمجلس النائب أحمد بهزاد الذي نشرته الصحف المحلية الأحد، يؤكد قبل كل شيء هذا الاجماع المتنامي وان الاعتراضات جدية. محور تصريح بهزاد ان القانون لن يمر بسهولة وألا عودة الى الوراء.
«التقدم إلى الأمام» كمقابل لرفض «العودة للوراء»، مهمة تقتضي أول ما تقتضي عقلية جديدة وأساليب جديدة. وإذا كان من السهل رصد أوجه القصور في أداء الحكومة في هذا الصدد، فان الواجب ايضا يقتضي أن نعرف نحن ماذا نريد. من هم «نحن»؟ على من تعود صيغة ضمير الجمع هذه؟
«نحن» المعترضون وهذه قائمة طويلة من الآراء والاجتهادات والرؤى المتباينة والأمزجة والمصالح والاختلافات أيضاً. نحن الأفراد والمؤسسات التي نطلق عليها مؤسسات المجتمع المدني، أعني الجمعيات السياسية بمختلف اطيافها والتيارات التي تمثلها، تلك التي اجمعت على رفض مشروعي هذين القانونين وقوانين أخرى... أكانت الجمعيات المعارضة أم الجمعيات المشاركة أو أية جمعيات تحت أي مسمى والجمعيات الاهلية في مختلف ميادين النشاط الأهلي.
لقد أعلنت الجمعيات، وخصوصاً منها السياسية رفضها للمشروعين في صيغتهما الراهنة، وهذا هو نصف العبارة، اما نصف العبارة الآخر فهو الذي نعتقد ان على الجمعيات ان تعيه جيداً وان تطرق أبوابه بوضوح. هل تستطيع؟ نعم بكل تأكيد وقد برهنت غير مرة على ذلك.
في معرض رفضها لقانون الجمعيات بصيغته الراهنة، بادرت جمعيتان هما جمعية المنبر التقدمي الديمقراطي وجمعية العمل الوطني الديمقراطي الى تقديم مسودتي قانون بديلة لقانون الجمعيات. المسودتان اللتان شكلتا أرضية المناقشات التي جرت بين الجمعيات واتفقت في النهاية على صيغة مسودة موحدة. هذا هو النوع الجديد من التفكير والعقليات التي نحتاجها بشدة، أي لا نكتفي بالنقد والحملات فحسب، بل نبادر الى تقديم البدائل. ثمة عنصر مهم آخر في مثل هذا المسعى هو الاستعانة بالمختصين. في كل الجمعيات السياسية هناك دوائر مختصة في ميادين عدة وليس على الجمعيات سوى تفعيل «التخصص» كنهج مؤسسي داخلها وليس كضرورة طارئة. لقد فعلت الجمعيات ذلك من قبل وليس عليها سوى المضي قدماً في ترسيخ هذا الاسلوب في عملها وأدائها وتعاطيها مع مختلف القضايا التي تطرح من حين لآخر.
قد أبدو مفرطاً في الخيال ان استعرت مصطلح «حكومة الظل» أو رحت استعرض تجارب الدول والمجتمعات الديمقراطية في إدارة الحياة السياسية وتحديداً في هذا الجانب. أي ان توجد لدى أحزاب المعارضة «حكومات ظل» من المختصين تناظر الحكومة الحقيقية التي تدير البلد. واذا كنت أرى ان الوقت مبكر لمثل هذا النوع من التفكير في بلادنا، فانني لا أرى في الوقت نفسه ما يمنع الجمعيات السياسية وهي تحتوي على كفاءات في مجالات عدة ان تشرع في التأسيس لمثل هذا التقليد. ومن الممكن أن يكون ذلك مشتركاً بين الجمعيات واتمنى ألا تقوم كل جمعية بتأسيس حكومة ظل خاصة. مثل هذا الاحتمال الاخير سيدفع بي للندم على هذه النصيحة وربما للضحك أيضاً.
قانون التجمعات هو الآخر يحتاج إلى مبادرة من الجمعيات تؤكد هذا التفكير الايجابي وترسخه. أعيد التذكير كيلا ننسى: ألا نكتفي بالنقد والحملات فقط، بل نبادر الى تقديم البدائل الأفضل والأكثر عقلانية ونضجا وانسجاما مع الدستور والأعراف المستقرة دوليا.
فيما يخص هذا القانون، تتبادر الى الذهن مقارنات مع دول أخرى، أما المقياس الأهم فهو احترام الحريات التي ينص عليها الدستور، سواء دستور 2002 أو دستور 1973 او أي دستور في أي بلد في العالم. أهم ما يخطر في الذهن هنا هو مسألة التوازن بين ترسيخ «حرية التعبير» وبين «طابعها وجوهرها السلمي».
«الطابع والجوهر السلمي» لا يعني أن علينا ان نمارس حرية التعبير وكفى، لان هذا سيبدو ناقصاً ولا يدل على إحساس بالمسئولية طالما انه لا يراعي الحاجات العملية للطابع السلمي.
تقييد حرية التعبير بالموافقات المسبقة وأذونات المحافظين هذه مستبعدة تماماً ومرفوضة، لكن لنكن عقلانيين ونراعي اموراً أخرى تنظيمية محضة. في الدول الغربية يتم التفرقة بين السير في الشارع والسير على الارصفة للمتظاهرين. نحتاج لشيء من هذا. هناك فارق بين ان نعبر وبين ان نسبب الازعاج للآخرين: الاختناقات، الوقوف في الاماكن التي لا تسبب الارباك. يحرص المتظاهرون في كل البلدان على ايصال رسائل احتجاجهم في مواقع مختارة بعناية كالشوارع العامة وأمام مبان معينة، لكن يتطلب الامر أحياناً سلاسة في اختيار الاماكن. أظهرت تجربتنا القصيرة إحساساً بالمسئولية في تنظيم التظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية وليس علينا سوى ان نبادر الى تعزيز كل المظاهر الايجابية في هذه التجربة وتحاشي الظواهر السلبية التي برزت وكانت موضع إدانة شاملة.
كل ما يمكن ان نقوله هنا يعرفه الجميع جيداً وفي ذهن الجميع: لا عنف، لا خروج، لا تطاول، لا ازعاج، لا تجاوز لأمن الآخرين. هل هذا صعب؟ لقد برهنا عليه ونعرفه جيداً وليس علينا سوى الاجتهاد وبلورته في صيغ عملية لكي نعزز أسلوباً ايجابياً في عملنا السياسي العلني ذي العمر القصير
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 809 - الإثنين 22 نوفمبر 2004م الموافق 09 شوال 1425هـ