العدد 809 - الإثنين 22 نوفمبر 2004م الموافق 09 شوال 1425هـ

شيء يتحرك

جدحفص - مهدي عبدالله 

تحديث: 12 مايو 2017

كنت منطلقاً في شارع سند الرحب، عاكفاً على رياضتي التي نصحني بها الطبيب ومتلذذا بالهواء المنعش والفضاء الساحر. فللمشي فوائد لا تحصى، من بينها استجمام العقل والتأمل والاختلاء مع الذات. أحببت هذه الهواية، صرت مواظباً عليها مؤمناً بضرورتها. فجأة اعترضت بصري قطة جاثمة على جنبها تتوسد أرضية الشارع. قطة متوسطة الحجم أليفة الشكل بيضاء اللون. هالني منظرها فهرعت نحوها، أمعنت النظر في وجهها فوجدت أنها لا تتنفس. بقع حمراء صغيرة لوثت ظهرها وبعض مساحات من الشارع. هممت على الفور بنقلها بعيداً عن السيارات الطائشة وتحريت يمنة ويسرة فلم أجد عصا أو قطعة خشبية تعينني على تحريكها. راودتني الرغبة بأن أحركها بيدي إلاّ أنني استكرهت ذلك لأنها غير طاهرة. انصرفت عنها وأنا في حيرة وقلق مما قد يعتريها من مصير. تساءلت من هو الشخص القاسي القلب الذي صدمها ولم يكلف نفسه عناء التوقف لمعاينتها. بالتأكيد هو رجل، فالمـرأة قلبها شفاف وعطوف ولن ترضى بأي حال بهذا العمل. لا، لا مبرر لهذا الاعتقاد فهناك الكثير من النساء قلوبهن قاسية بل ربما كان الفاعل على الأرجح امرأة لأنها ستجد حرجاً في النزول من السيارة. أين ذهبت الرحمة وأين الشفقة والانسانية؟ إنهم يدهسون الانسان كل يوم فما بالك بحيوان ضعيف؟ لم أمكث إلاّ قليلاً حتى شعرت بتأنيب عميق. قفلت إلى الوراء، بحثت عن أداة صلبـة وسارعت إلى موقع القطة. دفعتها والألم يعتصرني إلى الأرض الترابية. الآن تنفست الصعداء.

ابتعدت عنها، قلت في نفسي سيأتي عامل البلدية غداً وينقلها مع القمامة. لكن ماذا لو لم يأت؟ حتماً ستتحلل وتنبعث رائحة جسمها التي ستسمّم الأرجاء.

عدت ثانية، التقطت الأداة الصلبة وحفرت بيدي حفرة صغيرة. وضعت القطة داخلها وأهلت عليها التراب. يرحمك الله أيتها القطة المغدورة. عندما كنت صغيراً كانت لديّ واحدة تشبهها، في مثل حجمها وبياضها. كنت أحبها وأدلّلها وكانت تنام إلى جنبي في الفراش. بعد عامين ماتت القطة فحزنت حزناً عظيماً وحملتها إلى مكان قريب إذ دفنتها وقرأت عليها الفاتحة.

واصلت سيري، خامرني شعور بأن السيارات تترصدني، تريد أن تصطدمني. ابتعدت عن الرصيف، مشيت وأنا أتلفت إلى الخلف تارة وإلى الأمام تارة أخرى.

سرت بحذر وخوف شديدين. العـرق بلّل جبيني وملابسي، أنفاسي تقطعت. أخيراً وصلت إلى البيت.

داهمني إعياء مهول، لجأت إلى السرير. النوم يحاربني، كوابيس مفزعة تتراءى أمامي. شاحنة متوحشة تباغتني، تقذفني إلى مسافات بعيدة، أتضرج في دمائي، ولا أحد يسعفني.

في اليوم التالي خرجت أسير على الشارع نفسه، لمحت شيئاً مبهماً يتحرّك، جاءت سيارة مندفعة بجنون ودهست الشيء. تهاويت مترنحاً على الأرض. تكسرت أجنحة قلبي، تهتكت أوصال أعصابي. لماذا بحق السماء أرى هذا المنظر كل يوم؟ استجمعت قوتي شيئاً فشيئاً ووقفت على قدمي. ها هو الشيء يتحرّك بتثاقل، جريت مسرعاً نحوه، إنه ورقة كبيرة ملفوفة. يهدأ قلبي لعدة ثوان لكني أسمع بوق شاحنة يضرب بعنف من ورائي. أتلفت فيخرج السائق الثائر رأسه ويقول: ابتعد عن الشارع أيها الكلب! هذا اليوم ينذر بشؤم والأفضل أن أعود إلى البيت.

سند: قرية من قرى البحرين، قرب مدينة عيسى





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً