قال المستشار الألماني غيرهارد شرودر حديثاً بعد نهاية اجتماعه مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك إن العلاقات الألمانية الفرنسية لم تبلغ هذا المستوى من التفاهم منذ أن نشأت علاقة جديدة بين العدوين السابقين. وقد وقف المحور الألماني الفرنسي مع روسيا صامدا في معارضته لحرب العراق. لكن حين ينظر المراقب إلى موقف برلين وباريس تجاه النزاع الفلسطيني الإسرائيلي فإنه سيلاحظ أن برلين بحكم الماضي النازي تقف إلى جانب «إسرائيل» حتى لو اضطرها الأمر لتضع يدها بالنار، لكنها تقدم مساعدات مالية للسلطة الفلسطينية بصورة ثنائية وفي إطار المساعدات التي يقدمها الاتحاد الأوروبي.
بينما باريس تدافع بشكل لا يجاريها أحد في الاتحاد الأوروبي، عن مصالح وحقوق الفلسطينيين. وهي تقوم منذ سنوات بالدور الذي قامت به اليونان في عهد رئيس الوزراء الراحل باباندريو. وحين أجبرت «إسرائيل» منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج من لبنان بعد حرب طاحنة في العام 1982 وكان أرييل شارون وزيرا للدفاع في حكومة مناحيم بيغن، أرسلت فرنسا سفنا حربية حملت عرفات إلى اليونان قبل أن يواصل مشوار التشرد إلى تونس إذ قضى فيها سنوات قبل أن يعود إلى فلسطين بعد التوقيع على اتفاق أوسلو. وشاء القدر أن يضطر عرفات بعد أن اشتد به المرض أن يعالج في مستشفى عسكري بفرنسا حيث حياته في خطر شديد ولا يختلف اثنان على أنه انتهى سياسيا وأنه يترتب على الفلسطينيين ترتيب بيتهم بعناية وحذر شديدين لأن العالم كله ينظر إلى الفلسطينيين بعد نهاية حقبة عرفات الطويلة.
قام الرئيس الفرنسي جاك شيراك خلال الأسبوع الماضي بزيارة ياسر عرفات في المستشفى وحصل على اعتراف باهتمام فرنسا بالقضية الفلسطينية ومساندتها للرئيس الفلسطيني حتى آخر لحظة في حياته. هذه البادرة الرمزية تأتي في سياق اهتمام شيراك الشخصي بسياسة بلاده تجاه الشرق الأوسط منذ تسلمه منصبه في العام 1995. لا بل أن شيراك أصبح في السنوات الأخيرة أبرز مدافع عن المصالح الفلسطينية. وكان الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران قد قام بدور فعال ساعد في تأهيل عرفات إذ قام باستقباله بتاريخ الثاني من مايو/ أيار العام 1989 بقصر الإليزيه وعومل عرفات معاملة رؤساء الدول. وساعدت هذه الخطوة في فتح باب البيت الأبيض لاحقا أمام الزعيم الفلسطيني. قبل ذلك بخمسة أعوام ألقى ميتران كلمة في الكنيسيت الإسرائيلي طالب فيها بحق الشعب الفلسطيني ببناء دولته المستقلة. منذ ذلك الوقت تحتل القضية الفلسطينية مكانة خاصة عند الرأي العام في فرنسا وخصوصاً عند ستة ملايين فرنسي من أصل عربي والذين يتعاطفون بشدة مع نضال الفلسطينيين.
وساهمت اتحادات ومنظمات مؤيدة للفلسطينيين في فرنسا في الترويج للقضية الفلسطينية وتوثيق تاريخها بصورة ليست معهودة في دولة أوروبية أخرى. وقد أدرك شيراك منذ وقت أن الناخبين الفرنسيين يعيرون أهمية لنزاع الشرق الأوسط وأنهم يتابعون الحوادث في هذه المنطقة. لذلك لم يكن مجرد مصادفة أن توجه وزير الخارجية الفرنسي بارنير بعد توليه منصبه إلى مناطق السلطة الفلسطينية وزار عرفات في رام الله وأجل زيارة مقررة لـ «إسرائيل» لموعد آخر.
في العام 1995 جاء شيراك إلى سدة الرئاسة وفي حساباته العمل بسياسة مكثفة مع العالم العربي أو كما أشيع وقتذاك، إحياء سياسة فرنسية كبيرة تجاه العالم العربي وأن تحتل هذه السياسة حيزا بارزا في سياسة فرنسا. وقال شيراك في كلمة ألقاها في جامعة القاهرة العام 1996 إنه يكمل سياسة التقارب مع العرب التي وضعها الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديغول الذي أدرك في العام 1958 أن لفرنسا أصدقاء أوفياء في دمشق والقاهرة وعمان وسائر دول العالم العربي. ولا يخفى عن العرب أن فرنسا ساعدت «إسرائيل» في بناء برنامجها النووي في ديمونة.
طرأ ضعف على هذه السياسة في عهد وزير الخارجية دوما وسرعان ما سعى شيراك إلى إحيائها بعد أن اكتشف أن نفوذ الولايات المتحدة الأميركية نما بقوة في العالم العربي. وفي العام 2002 تم انتخاب شيراك لولاية جديدة في منصبه نتيجة التأييد الذي حصل عليه من أجيال المهاجرين وبعد أن كسب ثقتهم من خلال مساعيه لتحسين علاقات فرنسا مع دول المغرب. يذكر أن غالبية الفرنسيين من اصل عربي ينحدرون من دول المغرب. ويريد شيراك بصورة خاصة تحسين علاقات فرنسا مع الجزائر. بعد الزيارة التي قام بها للجزائر في مارس 2003 يشجع شيراك وزراء حكومته على زيارة الجزائر وهكذا قام أول وزير دفاع فرنسي بزيارة الجزائر منذ استقلال هذا البلد العربي. وسوف تبلغ هذه العلاقات أوجها في العام القادم حين يتم التوقيع في قصر الإليزيه على معاهدة صداقة بين البلدين. وكان شيراك قد قام بخطوة عبرت عن حسن النوايا حين دعا الرئيس الجزائري بوتفليقة لزيارته في المقر الصيفي للرئيس الفرنسي في بريجانكون وهذه سابقة لم يحظ بها رئيس دولة أجنبية من قبل. في حسابات شيراك العلاقات الاقتصادية بين فرنسا والجزائر البلد الغني بالنفط والغاز وحيث زاد فيه عدد الشركات الأميركية والبريطانية في الآونة الأخيرة. لا يريد شيراك أن تظل سياسته تجاه العالم العربي فرنسية بل كما قال في العام 1996: ينبغي أن تصبح هذه السياسة، أوروبية، بحيث تتبناها بلدان الاتحاد الأوروبي كافة
العدد 808 - الأحد 21 نوفمبر 2004م الموافق 08 شوال 1425هـ