تستعد الأراضي الفلسطينية المحتلة لتنظيم انتخابات رئاسية لقيادة السلطة التي فقدت برحيل مؤسسها ياسر عرفات نقطة التوازن بين الأطراف المتعارضة.
الانتخابات الرئاسية تتجه قانونياً نحو الإطار الصحيح. إلا أن الخوف عليها يبقى من الاحتلال الإسرائيلي والضغوط التي يمكن أن تمارسها واشنطن عليها لتعديل خط مسارها الديمقراطي، والاتجاه نحو الانتقائية أو التعيين من خلال التعاون مع أجهزة تحسن ترتيب الأمور.
إذا نجحت القيادة الفلسطينية المؤقتة في اجتياز هذه المسافة القصيرة تكون نجت من الوقوع في حقول الالغام التي نصبتها واشنطن بالتعاون مع تل أبيب لفرض خيار محدد على الشعب الفلسطيني. وإذا انساقت أطراف القيادة في تلبية الشروط الأميركية - الإسرائيلية، وطوقت البرنامج القانوني لآليات الترشيح والانتخاب تكون قد منعت الناس من التعبير عن قناعاتهم. وبين الخيار الأول (الحر والمستقل) والخيار الثاني (الموجه والمراقب) يتعلق مصير الشعب الفلسطيني ومستقبله في الامد المنظور.
إن شرط نجاح القيادة في اجتياز الامتحان الصعب يتمثل في تمسكها بالإطار القانوني للانتخابات، وعدم مسايرة الاحتلال المدعوم أميركياً في ضغوطه واختيار رئيس نيابة عن الناس. فالمهم ان تنجح القيادة في ترك حرية الخيار وعدم وضع ضوابط ورفع الحواجز أمام المتنافسين حتى يكون الاختيار هو المعبر الحقيقي عن رغبة الناس في رسم مصيرهم ومستقبلهم. فالحرية الدستورية هي شرط نجاح الديمقراطية، واحترام الدستور يضبط سير العملية بنجاح ويعطي صدقية للرئيس المقبل. فالدستور هو الضمانة ويأتي قبل صناديق الاقتراع لأنه هو من يحمي الديمقراطية من الانهيار. وإذا تم التوافق على تأمين الضوابط الدستورية لانجاح المهرجان الانتخابي فإن الديمقراطية ستكون هي الإطار السياسي الذي يجمع الاختلافات تحت «خيمة ياسر عرفات». وليس المهم في هذا المعنى من يفوز في الرئاسة حيدر عبدالشافي أو محمود عباس أو مروان البرغوثي، لأن الناس تكون اختارت ممثلها لفترة محددة دستورياً وتحت سقف سياسي لا يستطيع اختراق الثوابت الفلسطينية.
الثوابت الفلسطينية مسألة مهمة وهي أساس قيام الدولة الدستورية في فترة ما بعد عرفات. حتى عرفات نفسه لم يستطع تجاوزها أو اختراقها حين صافح رابين وبيريز أمام الرئيس بيل كلينتون في حديقة البيت الأبيض. فالثوابت هي جزء من الدستور، ولابد ان يتضمنها «القَسَم الرئاسي» حين يعلن الفائز في المعركة الانتخابية.
الثوابت الفلسطينية ليست عرفاتية تذهب برحيله، بل هي أساس دستوري للسياسة الفلسطينية وهي الإطار الذي يوحد الناس، ويدفع نحو المزيد من تعاونهم وتماسكهم. وبالتالي فإن التفريط بتلك الثوابت يعني خيانة الدستور، ومخالفة «القَسَم الرئاسي».
عرفات في ظل إرهاب الاحتلال لم يتراجع عن تلك الثوابت بل أصر دائماً على تكرارها في كل لقاء صحافي وأمام عدسات المصورين وفي كل مناسبة وأحياناً من دون مناسبة. وأهم تلك الثوابت كانت التمسك بضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على الأراضي المحتلة في 5 يونيو/ حزيران 1967. والتمسك بعاصمة الدولة وتحديدها بالاسم وهي القدس الشريف. والتمسك بعودة الفلسطينيين إلى ديارهم. والتمسك بتفكيك المستوطنات والعودة إلى حدود 4 يونيو.
إضافة إلى هذه الثوابت الوطنية كان عرفات يحرص على مسألتين: أولاً حق المعارضة في التعبير عن رأيها والاختلاف مع سياسة السلطة. وثانياً منع تدهور العلاقات الفلسطينية - الفلسطينية إلى نوع من الحرب الأهلية والاقتتال المسلح.
لم تكن سياسة عرفات ناجحة دائماً. وأحياناً انزلق نحو التفريط إلا أنه كان يستدرك كثيراً المواقف، ويعود إلى تأكيد تلك الثوابت الوطنية والسياسية لأنه كان يدرك أن مغادرة تلك المساحة تعني السقوط في هاوية الاقتتال الأهلي الذي سيدمر القضية والمصير المشترك والمستقبل.
هذه الثوابت مهمة وهي لابد أن تكون في قَسَم الرئيس المنتخب دستورياً، لأنها في النهاية تحمي السلطة من الضغوط وتعطي شرعية للنضال وتحصّن الرئيس المنتخب وتعزز سياسته وتدفعها نحو المزيد من الصدقية.
حتى الآن لاتزال السلطة المؤقتة تسير بين النقاط ونجحت في تجنب الكثير من المطبات. وإذا استمرت في نهجها القانوني ولم تستجب للضغوط الأميركية - الإسرائيلية تكون فعلاً نجحت في إعادة تأسيس هيكلية دستورية تعتمد على ثوابت وطنية وسياسية، ولا تخضع كثيراً لمزاج الرئيس المنتخب
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 808 - الأحد 21 نوفمبر 2004م الموافق 08 شوال 1425هـ