لا أعلم ما سر تشرذمنا نحن العرب؟ هل الكلام في المطلق هو الذي قتلنا... هل صحيح أن انفعالاتنا موسمية كما يقول شاكر النابلسي في كتابه «الشارع العربي» عندما وصف انفعالاتنا بـ «المشمشيات»، أي أننا نشبه فاكهة المشمش، فهي تطلع علينا في العام مرة واحدة، أم نحن كما وصفنا نزار قباني في كتابه «الكتابة عمل انقلابي»، بأننا قنانٍ غازية تثور سراعاً ثم تهدأ، أم يصدق علينا توصيف غوستاف لوبون في كتابه «سيكولوجية الجماهير» وهو ينظر للتكوين النفسي للمجتمعات، إذ يرى أن السياق الجمعي يأخذها، فيقول «هي تؤخذ إلى المسلخ وهي تبتسم». أقول: أي الأوصاف أدق؟ لا أعلم، لكن الذي أعلمه أننا نعيش ما بين حالين مرضيتين، بين مثقف عاجي ينظر إلى المجتمع عبر بيانات وكتب حريرية تخالها «بروشورات» سياحية، وبين مثقف متثور هائج يضرب رأسه بالجدار من دون مراعاة لطبيعة مقتضيات الظروف وواقعية الأمور. لعل المتنبي كان وسطياً في رؤيته ولو تنظيريا، فهو يقول:
وغاية المفرط في سلمه كغاية المفرط في حربه
والتوازن بين الاثنين يكاد يكون أشبه بالإعجاز لكنه ممكن.
كل ما أخشاه في عملنا السياسي كحكومات ومعارضة أننا نسير في المكان الخطأ، ثم نكتشف الخطأ بعد فوات الأوان، فنصبح مثل ذلك الأعرابي الذي هيأ نفسه وراح يطوي الصحارى والفيافي مؤملاً نفسه بالوصول إلى الكعبة. وفي نهاية المطاف تفاجأ بوصوله إلى تركمنستان... تعب وجهد ومال وتداعيات كبرى، وفي النهاية اكتشف خطأه.
عندنا من الأنظمة من كانت نهايته كنهاية الاعرابي هو صدام. غزا الكويت حتى أسقط بلاده في قبضة الاحتلال. وعندنا في الحركات، حركة التكفير والهجرة في مصر. كفّرت المجتمع حتى اكتشفت خطأ الموقف. وعندنا في لبنان الشيخ صبحي الطفيلي، فقد حرق مراكبه وقاده تطرفه إلى إطلاق رصاص الكلمات والتخوين لرفقاء الدرب، والنهاية عزلة قاتلة في قرية نائية في موت بطيء، سوى من إثارة تلفزيونية في قناة هنا أو هناك، هذا هو الحبل السري الذي بقي يعيش عليه شيخنا الثوري. مازلت لا أعلم ما السر في الضياع الذي يعيشه العرب. يقول محمد الماغوط إنه الحسد، إذ يقول: «انظر في الاوتوبيس... الركاب الواقفون ينظرون شزراً إلى الجالسين على المقاعد، وتلك هي مشكلتنا نحن العرب، نحسد الجالس على الكرسي، ولو كان جالساً على كرسي تواليت»... ومظفر النواب يقول: لا، المشكلة ليست في ذلك، وإنما في المزايدات أو في الهروب من قضاياه المصيرية خوف التورط، «ويدافع عن كل قضايا الكون، ويهرب من وجه قضيته».
لا أريد أن أسطح الموقف، لكن السؤال: ما الحل؟ مرت قضايا كثيرة، ذهب ديوان الرقابة للكشف عنها، وبعض نوابنا مازالوا نائمين، ويبقى السؤال: ماذا سيصنع بعض هؤلاء النواب أو بعض المترافعين هنا أو هناك مع هذه القضايا. ذهب ديوان الرقابة مهرولاً إلى عدة وزارات، وبحث في دفاتر الوزارة واطّلع على الكثير منها، وها هو يضع بين أيدينا تقاريره، فماذا سيكون ردنا؟ ذهب إلى وزارة الشئون الإسلامية لإدارتي الأوقاف السنية والجعفرية، وكانت طبيعة مهمة الرقابة رقابة أداء، وكذلك ذهب وفتح خيمة إدارة أموال القاصرين، ثم هرول بعيون كبيرة وذهب للتحقق من صحة التصرفات المالية والإدارية لبنك الإسكان، ثم فتح باب إدارة المجاري ومصارف المياه للحصول على معلومات إضافية بشأن مشتريات ومناقصات إدارة المجاري، وقام أيضاً بمراجعة صحة إجراءات مناقصة الحاسب الآلي للإدارة العامة للجمارك... هل سمعتم عن المناقصة هذه؟ هل سمعتم أن نائباً أو مثقفاً تكلم عنها؟ كذلك ذهب إلى معهد البحرين للتدريب للحصول على معلومات بخصوص فقدان أصول. ألا تلاحظون أن الماء غلب على الطحين، وأن كثيراً من القضايا تتعلق بكعكة المناقصات؟ أين هم النواب من كل هذه الملفات؟ أليست هذه الملفات أهم من قضية شم الغِراء أو لبس البرقع أو محاكمة صدام؟ أعتقد أن لو كانت المعارضة في البرلمان، لأُدير البرلمان بطريقة أقوى وأفضل ألف مرة، وخصوصاً أننا نفتقر إلى وجود البرنامج والمشروع في الخارج، إذ لا يوجد مشروع، ولو كان لبان، وقديماً قيل: خير لك أن تتعشى بملعقة مكسورة من أن تنتظر أخرى سليمة. ربما لا تعود - هذا إذا عادت - إلا بعد أكل كل العشاء، وخصوصاً إذا كانت البقعة الجغرافية صغيرة، إذ لا يتبقى مسكن والأعمال في نقص إذ البطالة في ازدياد، حينها قد تحصل على الملعقة الذهبية، لكن بعد تصفير كل الامتيازات، بعد ذلك لا غنى للملعقة الذهبية عن الطعام، لأن الحديد لا يشبع بطن الجائع ولو كان ذهباً. ولتتحمل لوم وعتاب الجميع، فإن الرجوع بعد ذلك صعب
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 807 - السبت 20 نوفمبر 2004م الموافق 07 شوال 1425هـ