القرار الذي اتخذه خلفاء رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات بالاتفاق مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بالاكتفاء بإجراء انتخابات رئاسية، والإبقاء على المجلس التشريعي - الذي انتهت صلاحيته منذ نحو أربع سنوات - يستهدف قطع الطريق على إمكان سيطرة مرشحي حماس والمقاومة على المجلس في أية انتخابات تجرى.
ولذلك سيتم الاستعاضة عن انتخابات المجلس التشريعي بانتخابات للمجالس البلدية والقروية التي ستجرى لأول مرة منذ نحو ثلاثين عاما في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقال مصدر فلسطيني مطلع إنه بسبب الخشية من فوز حركة حماس وحلفائها في انتخابات المجالس البلدية فإن خلفاء عرفات لن يجروا الانتخابات البلدية بالكامل، بل ستجزأ تلك الانتخابات لتكون تدريجية، إلى أن يتم التأكد من عدم قدرة حماس الفوز بغالبية المجالس.
فخلفاء عرفات الذين يتصدرهم محمود عباس (أبومازن) وأحمد قريع (أبوعلاء)، هم من أبرز دعاة التخلي عن المقاومة بل وتجريمها بدعوى أنها لا تجلب سوى الدمار للشعب الفلسطيني وكذلك هم من دعاة تجريد منظمات المقاومة من أسلحتها والتفاوض مع الحكومة الإسرائيلية على أرضية التخلي عن حق العودة والقدس.
وإذا كان ما جرى من إطلاق نار في غزة يوم الأحد قد اعتبره البعض محاولة لاغتيال أبومازن، إلا أن التفسير الأكثر قبولا هو أن ما حدث ليس أكثر من إشارة إلى المستقبل الذي ينتظره، طالما أنه ينظر إليه كمرشح «إسرائيلي - أميركي» لقيادة المرحلة المقبلة التي تتطلب التخلي عن ثوابت القضية الفلسطينية، وهو ما سبق أن ارتكبه أبومازن في خطابه في العقبة بحضور جورج بوش وأرييل شارون الذي وصف فيه المقاومة بالإرهاب، والاعتذار لليهود عما لحقهم في تاريخهم والتعاطف مع معاناتهم. ويذكر أن أبومازن كان قد استقال طواعية منذ نحو العام من جميع مناصبه في فتح واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
ويبدو أن رسالة يوم الأحد في غزة والمظاهرات في غزة وبيرزيت التي هتفت ضده وضد حليفه محمد دحلان بأنهما عميلان أميركيان، قد أثمرت إذ أعلن أبومازن ومعه حركة فتح أنه ليس مرشحا بعد لانتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية خلفا لعرفات. وكان أبومازن قد اضطر لتقديم استقالته والرحيل في المرة الأولى عقب ضغوط ومناورات مارسها عرفات آنذاك في سياق تهميشه دافعا بمؤيديه وأنصاره إلى التظاهر ضده والتشكيك في ارتباطاته وغاياته وتهديد حياته.
وأبومازن كما يقول مسئولون كبار رافقوا مسيرته في حركة فتح، اسمه الكامل محمود رضا عباس ميرزا من عائلة ذات أصول إيرانية من طائفة البهائيين هاجرت إلى فلسطين مع اضطهاد الحكومة الإيرانية لهم، وهو أمر ينفيه أبومازن ويؤكد أنه مسلم سني. واستقرت عائلته في صفد.
وكانت أول فرصة لبروز أبومازن خليفة لعرفات قد ظهرت في أعقاب الحصار الذي فرضته قوات الاحتلال الإسرائيلي على عرفات في «المقاطعة إذ كان شارون قد اشترط عدم رفع الحصار إلى أن يوافق عرفات على تعيين رئيس حكومة للسلطة الفلسطينية وهو المطلب الذي تقاطع مع دعوات أبومازن ومؤيديه آنذاك بضرورة تعيين رئيس للحكومة. ولم يخف شارون وقتها رغبته الصريحة بتعيين أبومازن رئيسا لحكومة السلطة متعهدا بمساعدته في حال توليه المنصب على أمل أن يخلف عرفات في الوقت المناسب. وقد أطلق أبومازن على الفور إشارات ودية جريئة تجاه «إسرائيل» غير آبه بغضب الفلسطينيين الذين يعتقد بأنهم ليسوا هم الطرف الذي يحسم وضعه، بل إن الولايات المتحدة و«إسرائيل» هما من يحسم مسألة الرئيس المقبل للسلطة الفلسطينية ويفرضها على الجميع. تماما كما فعل في أوسلو إذ نظم هناك في سرية مطلقة في العام 1993، وبعيدا عن المفاوضات الرسمية التي كان يجريها وفد فلسطيني في واشنطن برئاسة حيدر عبدالشافي، اتفاق أوسلو الذي تنازلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بمقتضاه عن 80 في المئة من فلسطين وقبول سلطة حكم ذاتي محدود على بعض الجيوب في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلتين وإقامة أجهزة أمن وشرطة مهمتها وقف العمل الفدائي وحماية أمن الكيان الصهيوني.
محمود عباس الذي يحمل شهادة الدكتوراه من إحدى الجامعات الروسية على أطروحة أعدها الباحث حبيب قهوجي مدير مؤسسة الأرض للدراسات في دمشق حول ظاهرة النزوح الإسرائيلي، التي ساهمت بتفاقمها المقاومة الفلسطينية المسلحة، هاجم في تصريحات بارزة الانتفاضة والمقاومة وقال إن الفلسطينيين «ارتكبوا أخطاء فاحشة في سنوات الانتفاضة، والخطأ الأكبر والحاسم كان الانتقال إلى استخدام السلاح ضد «إسرائيل». وحصلنا في هذه الانتفاضة فقط على الدمار المطلق». ويوصف أبومازن في أوساط فتح بأنه «زعيم مدرسة الانهزامية المغلفة بشعارات الواقعية» وقد سبق له القول «ليس بمقدورنا أن نقاتل الدولة اليهودية الأقوى من كل الدول العربية معا، ومن نحن حتى نواجهها». وكان قال في مقابلة مع صحيفة الشرق الأوسط قبل أربعة أعوام «إن خيار الحرب لم يعد واردا لدى الفلسطينيين وإن الخيار الوحيد هو المفاوضات من أجل السلام» مهاجما دعاة المقاومة الذين وصفهم بـ «العدميين الذين لا يؤمنون بالحل السلمي ولا بالشرعية الدولية ولا بالقمم ولا بشيء ويريدون التخريب وحده، وهؤلاء لا يمثلون الشعب الفلسطيني».
ويقول خصوم أبومازن إنه يتبنى منهجا مطابقا لمنهج البهائية في تأييد «إسرائيل»، فإلى جانب رفضه للانتفاضة لم يصدر عنه أي تصريح يدين انتهاك شارون للمسجد الأقصى ولم يبد تعاطفا مع الشهداء الذين يسقطون يوميا بفعل أعمال القمع والقتل والإرهاب الإسرائيلي. ويذكر أن البهائية التي انتقلت إلى عكا تؤيد تجمع اليهود في فلسطين وقد انعقد مؤتمر البهائية العالمي في القدس المحتلة العام 1968 إذ كشفت أبحاث المؤتمر عن ارتباط الصهيونية بالبهائية بشكل وثيق وقيل في ختام المؤتمر أن «الحركتين الصهيونية والبهائية متممتان لبعضهما بعضاً وتجتمعان في أكثر النقاط». ويعامل البهائيون في فلسطين المحتلة معاملة اليهود منذ قيام «إسرائيل». والبهائية مدرجة على القائمة السوداء لمكتب المقاطعة العربية.
وقد أحاط أبومازن نفسه بعدد من الموالين السابقين لعرفات بعد أن تأكدوا أن عرفات لم يعد خيارا للحكومة الأميركية التي تنظر بمنظار شارون إزاء تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، إذ أعد هؤلاء أنفسهم لمرحلة ما بعد عرفات، ومن أبرزهم نبيل عمرو الذي عوقب فيما بعد بإطلاق النار عليه في منزله إذ لايزال يرقد في أحد مستشفيات ألمانيا. ومحمد دحلان الذي يطمح حاليا إلى منصب المستشار السياسي لأبي مازن في حال توليه رئاسة السلطة، أو رئاسة الحكومة، وهو يشيع بأنه يحظى بدعم مصري كبير وخصوصاً من قبل مدير المخابرات المصرية عمرو سليمان الذي كان توسط لدى عرفات قبل شهرين من وفاته للقاء دحلان، الذي كان رفض تسليم عرفات 30 مليون دولار كان دحلان تلقاها من الاتحاد الأوروبي لتنفيذ خطته الأمنية التي لم تر النور إذ خرج من السلطة مع استقالة حكومة أبومازن التي لم تعمر سوى بضعة أشهر.
وترى مصادر مطلعة أن حكومة بوش التي تسعى إلى التخلص نهائيا بعد رحيل عرفات من التعامل مع سلطة برأس واحد إلى التعامل مع سلطة بثلاثة رؤوس، لاتزال تراهن في تنفيذ خطتها فلسطينيا في مرحلة ما بعد عرفات على «الترويكا الفلسطينية» المكونة من أبومازن ووزير مالية السلطة الفلسطينية سلام فياض ودحلان. ولكن يبدو أن ما حدث في غزة قد يجعل المتآمرون المتأمركون يعيدون رسم خططهم من جديد وهم ليسوا قلة في حركة فتح وتوابعها من «ليبراليين جدد» وأكاديميين ومتمولين ومنظمات غير حكومية ممولة أميركيا وأوروبيا. ويحتاج نجاح «ترويكا» أميركية التوجه إلى حسم الخلاف داخل حركة فتح بين ما أصبح يطلق عليهم «جماعة تونس» و«جماعة الداخل» التي تضم المقاتلين والفدائيين وخصوصاً كتائب شهداء الأقصى الذين كانوا يعتمدون في تمويلهم وتسليحهم على السلطة في عهد عرفات، والمرتبطين بالسلطة من جهاز الأمن الوقائي وأجهزة الأمن الأخرى والموظفين. غير أن ما قد يحبط مثل تلك الخطط هو دخول منظمات المقاومة الفلسطينية على الخط وتحقيق قدر كبير من التنسيق في صفوفها ومع خط الكفاح والمقاومة والتمسك بحق العودة في فتح لتشكيل قيادة موحدة تمثل الداخل والخارج
العدد 807 - السبت 20 نوفمبر 2004م الموافق 07 شوال 1425هـ