«نحن لا نريد مواجهة العالم، بل التعاطي مع المجتمع الدولي بأسلوب الأخذ والعطاء، ولم نتنازل عن الثوابت، ولم نتخط الخطوط الحمراء فيما يخص الحقوق الوطنية. إنه قرار النظام بالإجماع وليس قرار فريق منه دون آخر».
بهذه الكلمات الواضحة والشفافة والتي تقطع الشك باليقين دافع أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني حسن روحاني عن الاتفاق الجديد الذي عقده الوفد الإيراني المفاوض الخاص بمعالجة تعقيدات ملف بلاده النووي مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والمجتمع الغربي المحتكر للنادي النووي العالمي ممثلاً بالدول الأوروبية الثلاث: فرنسا، ألمانيا وبريطانيا، وممثل مجموعة الاتحاد الأوروبي.
وجاء الاتفاق الجديد الذي أعلن عنه في بيان مشترك يوم 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004م في وقت واحد في باريس وبرلين ولندن وطهران، ليكون بمثابة المكمل لاتفاق الحادي والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 2003م الموقّع بين العواصم الأربع الآنفة الذكر بخصوص الموضوع نفسه.
في الحالين كان لابد للعالم أن ينتظر انبعاث الدخان الأبيض من قصر سعد آباد في شمال العاصمة الإيرانية طهران، إذ كانت توضع اللمسات الأخيرة للمفاوض الإيراني قبل أن يتم الإعلان عما صار يعرف بتوافقات سعد آباد - 1 - وسعد آباد - 2 -.
في سعد آباد 1، وافق الإيرانيون لأول مرة على وقف عمليات تخصيب اليورانيوم في منشآتهم النووية كخطوة تطوعية كانوا مطالبين بها بمثابة إشارة حسن نية ضرورية من أجل رفع التهمة عنهم بخصوص وجود نشاط ذري سري و«غامض» مزعوم مقابل تعهد أوروبي بتقديم جميع المساعدات والإمكانات التي تحتاجها إيران لتطوير برنامجها النووي، للأغراض السلمية في إطار عضويتها في مجموعة الدول الموقعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية المعروفة بـ NPT والبروتوكول الإضافي - الملحق - إضافة إلى الوعد بإغلاق ملفها النووي المفتوح على جدول أعمال مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بسبب «الغموض» الذي يلف نشاط طهران النووي بحسب اعتقاد الوكالة والمجتمع الغربي، والذي كان ينبغي أن يحصل في اجتماعات يونيو/ حزيران الماضي ولم يتحقق الوعد.
بعد مضي عام على ذلك التوافق «الرقراق» وما تخلله من مناقشات ومناكفات وتعهدات ووعود شفوية غير مكتوبة أو على الأقل غير معلنة منها ما عرف فيما بعد بتوافقات بروكسل الخاصة بتوسعة الخطوة التطوعية الخاصة بتعليق التخصيب لتشمل خطوة تعليق انتاج وتشغيل أجهزة الطرد المركزي وعمليات فصل البلوتونيوم تأتي اليوم توافقات سعد آباد 2، لتكشف استعداد طهران ليس فقط للاستمرار في تعليق التخصيب بل وتوسعته ليشمل جميع النشاطات الذرية الإيرانية الخاصة بدورة الوقود النووي تقريباً، أو ما وصفه روحاني بالوقف «شبه الكلي» للنشاط النووي الإيراني مقابل تعهد أوروبي «أوسع» هذه المرة يشمل ليس فقط الوعد لإيران بمساعدتها في مجال التكنولوجيا النووية بل وتقديم كل ما يلزم لوضعها في مصاف «التطبيع التجاري والاقتصادي والسياسي والأمني الكامل» مع العالم الخارجي انطلاقاً من «بدء المفاوضات الجادة بخصوص اتفاقات التجارة والتعاون الأوروبي الإيراني» وصولاً إلى دعمها واسنادها للدخول في عضوية منظمة التجارة العالمية WTO.
وبقدر ما كان روحاني واضحاً وشفافاً وجازماً في دفاعه عن توافقات سعد آباد 1 و2، فقد كان خصومه، أو منافسوه السياسيون في المعادلة الداخلية الإيرانية واضحين وشفافين وحازمين أيضاً.
«ما حصل في توافقات الملف الذري أشبه بمبادلة اللؤلؤ المصقول بماء السكر الرقراق» والكلام للسيدعلي لاريجاني ممثل مرشد الثورة في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني وهو المنصب الذي يتقاسمه معه روحاني باعتبار أن للمرشد ممثلين اثنين في المجلس المذكور مع الفارق بأن روحاني يمثل قاعدة «حزبية» و«جناحية» وسياسية أوسع تستند إلى تاريخ محافظ يتمدد نحو الإصلاح مدعوماً بترويكا المرشد ورفسنجاني وخاتمي، بينما لا يتمتع لاريجاني بغير القاعدة المحافظة لكنها المصممة على الدفاع عن ولاءاتها «الحزبية» للنظام حتى لو أدى ذلك إلى مجابهة العالم كله.
وانطلاقاً من عرض هذه القاعدة «الحزبية» المحافظة تحديداً انطلق صوت آخر أكثر راديكالية في تعليقه على اتفاقات سعد آباد - 2 - كما جاء وصف حسين شريعت مداري - رئيس تحرير صحيفة «كيهان» المحافظة - للتوافقات بالقول: «أشم رائحة مؤذية تقترب من سمات الاستسلام للأجنبي في هذا الاتفاق».
هذا فيما ذهب أحمد توكلي العضو البارز في البرلمان الإيراني المحافظ لتوصيفها بـ «أوسلو الإيرانية».
أياً تكن الصفات التي أطلقت على هذه التوافقات فإنها تمثل نقلة نوعية مهمة في الدبلوماسية الإيرانية المعاصرة والتي سيرتبط اسمها باسم النظام الإسلامي الحاكم منذ 11 فبراير/ شباط 1979م، فإما أن تأتي بـ «مصالحة» نهائية مع المجتمع الدولي في الخطوة اللاحقة كما يتوقع المتحمسون للدفاع عنها والذين ينتمي إليهم رئيس الوفد المفاوض حسن روحاني، والذي قال صراحة في مؤتمره الصحافي الأخير: «أعرف ان ذلك أمر صعب وليس هيّناً لكنه الخيار الأكثر حكمة والقادر على تجنيبنا مخاطر المواجهة مع العالم وأيضاً إنجاز نصر دبلوماسي كبير لنا».
أو ان تعيد - تلك التوافقات - إيران إلى المربع رقم واحد لتبدأ استعدادات المواجهة الشاملة فيما لو فشلت عملية صناعة الثقة المتبادلة.
والحقيقة المجردة من الميل السياسي والحزبي والتي يكمن فيها القدر المتيقن والمشترك من بين تفاصيل كل ما جرى ويجري منذ سعد آباد - 1 - إلى سعد آباد - 2 - هي ان جوهر ما يتم التعامل به الآن لا يخرج عن كونه إرادة سياسية متقابلة قررت رفع الملف النووي الإيراني التقني والحقوقي والقانوني بطبيعته الأصلية إلى مستوى التعامل السياسي من أجل صناعة ثقة متبادلة بين طهران والمجتمع الدولي الذي تهيمن عليه كلياً الولايات المتحدة الأميركية.
وهذا يعني ان بإمكان الطرفين الانسحاب في أي وقت يشاءان من هذه التوافقات - المصالحة النسووية - والعودة بالأمور إلى المربع الأول، وهو أمر تركه المتوافقون مفتوحاً على مصراعيه عندما ثبتوا بنداً مهماً يقول: «ان هذه الخطوة الإيرانية تطوعية ولا تحمل أي التزام حقوقي لإيران».
ما يعني ان دول الاتحاد الأوروبي «تذعن وتقر» كما هو مدون في البيان نصاً بأن من حق إيران ان تتراجع عن خطوتها التطوعية هذه إذا ما شعرت بفشل عملية صناعة الثقة.
في المقابل فإن فحوى البنود الخاصة بالتعهدات الأوروبية تجاه طهران ربطت جميعاً بـ «تأكيد وضمان الوكالة الدولية بأن كل ما تعهدت به إيران قد تم تنفيذه تماماً».
انه لا شك انتصار دبلوماسي كبير إلى إيران بأن تعترف لها أوروبا بحقها في أن تصبح عضواً رسمياً معترفاً به في النادي الدولي النووي للأغراض السلمية وهو ما كانت ولا تزال واشنطن متحفظة عليه ان لم تكن ترفضه كما هو حال تل أبيب الخصم اللدود للنظام الإيراني والتي لا تقبل بأقل من الإطاحة به.
لكنه أيضاً طريق محفوف بالمخاطر لأنه «سيَّس» ملفاً كان يفترض ان يبقى حقوقياً وتقنياً لو كانت طهران البرازيل أو جنوب إفريقيا مثلاً. لكن المدافعين عن سعد آباد واحد واثنين يقولون: «ان العاقل من يستطيع التمييز والاختيار بين خير الشرين وليس بين الشر والخير الذي لا يريده أصحاب منطق القوة المفرطة
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 807 - السبت 20 نوفمبر 2004م الموافق 07 شوال 1425هـ