الأكاذيب الأميركية بشأن الفلوجة أخذت تنكشف، وهي في مجموعها تشبه تلك الأكاذيب التي اخترعتها واشنطن لتبرير الحرب على العراق. وهذا ليس غريباً. فمن يكذب في أسباب الحرب لا يتردد في تكرار الكذب في نتائجها. وفي النهاية الاحتلال هو المسئول، وإدارة البيت الأبيض تتحمل مسئولية كل أعمال الفوضى والعنف والمعارك الصغيرة التي حصلت بعد تقويض الدولة والاستيلاء على ثروات البلاد. حتى تلك الأعمال المشينة من نوع خطف الأبرياء وقتلهم أو قطع رؤوسهم. فهذه الأعمال المخيفة والمقرفة حصلت بعد الاحتلال وبالتالي فإن المسئولية المادية والمعنوية تقع على الإدارة التي قررت خوض الحرب لأسباب تبين لاحقاً أنها غير صحيحة.
هذه الحفنة من الأكاذيب تحاول إدارة جورج بوش نأي نفسها عنها، متظاهرة بأنها فعلت الصحيح، وأن الأخطاء لا صلة لها بها. عدم الاعتراف بالخطأ يعتبر جريمة تضاف إلى الجريمة الأصل. كذلك الإمعان في الخطأ يعتبر جريمة جديدة تضاف إلى الجريمة الأم. فالجريمة وقعت مهما حاول المجرم المحتل تزيين موقفه وتجميل ساحته. فالقضاء دائماً يعطي الأسباب التخفيفية إذا اعتذر المجرم عن فعلته واعترف بالخطأ. والقضاء أيضاً يرفع من مسئولية المجرم ويزيد من عقوبته إذا تباهى المجرم بفعلته ودافع عنها ولجأ إلى أساليب الخداع لتغطية الأخطاء الناجمة عن الفعل الأول وما طرأ عليه من تداعيات.
المشكلة في إدارة واشنطن الجمهورية انها لاتزال تعتبر أن العالم على خطأ وهي على صواب. والمشكلة أيضاً أنها تواصل حفلة الكذب وتريد من العالم تصديقها. وهذا ما فعلته قبل الحرب على العراق وخلالها وبعدها وصولاً إلى ارتكاب مجزرة ضد أهالي الفلوجة، واقتحام مسجد الإمام الأعظم (أبوحنيفة النعمان) في بغداد واعتقال إمام المسجد بتهمة التحريض ضد الاحتلال. وهذا أحقر أنواع السلوك الأخلاقي إضافة إلى السياسي. فالاحتلال وصلت به الوقاحة والإصرار على الكذب وعدم الاعتراف بالخطأ إلى درجة غير مسبوقة. فهو يعتقل ابن البلد وصاحب رأي وإمام مسجد بتهمة أنه يرفض احتلال بلده. فأين الجريمة في هذا الموقف الشريف الذي تقره كل الشرائع والقوانين والمعاهدات والمواثيق؟
المشكلة إذاً مضاعفة، فهي تزاوج بين الاحتلال ووقاحة المحتل. والوقاحة صفة من صفات المجرمين لأن الإنسان السوي يتحلى بصفة الحياء والخجل والتواضع مهما كبر شأنه.
العراق إذاً أمام محتل وقح بلغت فيه درجة الغرور بأنه لا يعترف بأكاذيبه، ويعتبر ابن البلد هو المجرم الذي يجب أن ينزل به العقاب بذريعة أنه لم يعترف بالاحتلال. فهل هذه هي الديمقراطية التي وعدت بها واشنطن أهل العراق وشعوب الشرق الأوسط؟ وهل هذا هو الصنف من حقوق الإنسان الذي تريد واشنطن تصديره إلى بلاد الرافدين وتسويقه في العالم العربي؟ وهل هذه هي الرسالة التي تريد إيصالها واشنطن إلى أنظمة الدول العربية؟ فإذا كان هذا هو المطلوب فإن الأنظمة المعنية متفوقة على الولايات المتحدة في هذا النوع من الديمقراطية وفي هذا الصنف من حقوق الإنسان؟ ويمكن القول إن الكثير من الأنظمة العربية ترحب بهذه الديمقراطية وهذه المسحة من حقوق الإنسان. بل هي على استعداد لتقديم الدروس وإعطاء المحاضرات لتعليم واشنطن ما فاتها من تدريبات ميدانية إذا كانت هذه هي الرسالة التي تريد من العرب والمسلمين تعلمها. فصدام قتل مليون إنسان في ثلاثين سنة، والولايات المتحدة قتلت حتى الآن أكثر من 120 ألفاً من العراقيين في أقل من سنة ونصف السنة من الاحتلال. وصدام كفّر نصف شعبه بذريعة الأمن وأميركا تخوّن النصف الآخر بذريعة الإرهاب... وهكذا. فهل هذا هو جواب الولايات المتحدة على أسئلة كثيرة طرحت من المحيط إلى الخليج؟ بكل بساطة، إدارة جورج بوش تقول نعم. هذا ما نملكه ولا يوجد عندنا غيره من إنتاج.
إنها صناعة القتل إذاً. وترويج بضاعة الموت يحتاج دائماً إلى أصيل (منتج) ووكيل (موزع). والفائدة التي جناها شعب العراق من حرب مدمرة أسفرت حتى الآن عن استبدال الوكيل (التاجر الصغير) بالأصيل (المنتج الكبير)... والمزيد من الموت والتشرد والعذاب.
الأكاذيب الأميركية عن الفلوجة بدأت تنفضح، وأخذ الآن جنرالات آلات القتل يتحدثون عن فرار «الأجانب» لتغطية الخدعة التي برروا بسببها الهجوم المدمر على مدينة قررت واشنطن استباحتها لتسويقها في الولايات المتحدة إرضاءً لناخب أعطى صوته لكتلة شريرة من السياسيين
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 807 - السبت 20 نوفمبر 2004م الموافق 07 شوال 1425هـ