سؤال لايزال مدار جدل بين الدول الكبرى: هل أدت سياسة واشنطن في «مكافحة الإرهاب» إلى تحسين الوضع الأمني في العالم أم أسهمت في تطوير وسائل العنف ونشره في الكثير من المناطق والدول؟
الثنائي بوش - بلير يعاند الوقائع الجارية يومياً. فهما يؤكدان أن العالم في وضع أفضل من السابق، وان سياستهما التقويضية وفرت المزيد من الفرص لبناء الديمقراطية في بلدين (أفغانستان والعراق) تعرضا لحكم الفرد أو نظام العشيرة. وبالتالي فإن نجاح التجربة في البلدين يبرر سياسة الحروب، ويعطي قوة لاستكمال تلك التجربة في بلدان أخرى.
الرد على الثنائي (بوش - بلير) جاء واضحاً من طرفين: الأول تمثل في الهجوم المضاد الذي شنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مذكراً بامتلاك موسكو قدرات نووية متفوقة تكنولوجياً. والثاني عبر عنه الرئيس الفرنسي جاك شيراك قبل وبعد زيارته للندن حين أكد أن العنف في العالم انتشر وتضخم، وان سياسة الحروب - وتحديداً الحرب على العراق - لم تسهم في تخفيف «الإرهاب» والفوضى الأمنية.
جواب الرئيس الفرنسي ليس جديداً فهذا الكلام كرره مراراً وفي أكثر من مناسبة، وأعاد التذكير به قبل اللقاء المتفق عليه مع رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير العائد من زيارة التهنئة التي قام بها لواشنطن بعد تجديد ولاية الرئيس جورج بوش مرة ثانية.
الرئيس الفرنسي أراد ان يقول من تكرار كلامه ان التجديد للرئيس بوش وتثبيت التحالف الثنائي الأميركي - البريطاني لا يعني ان الفكرة التي اعتمدتها إدارة واشنطن في السياسة الهجومية على «الإرهاب» صحيحة أو انتصرت.
فالكلام الفرنسي هو رسالة استباقية تؤكد الموقف السابق الذي رفض محاربة الإرهاب بالإرهاب وضرب العنف بالعنف واحتواء الفوضى الأمنية بسياسة الاستيلاء وتقويض الدول وزعزعة استقرارها. فالرسالة واضحة وهي تقول: إن سياسة واشنطن فشلت في احتواء «الإرهاب»، وزادت من نسبة العنف في العالم.
كلام شيراك ليس جديداً. الجديد في الموضوع تلك الرسالة البعيدة المدى التي بعثها الرئيس بوتين بعد تعيين كوندليزا رايس في منصب وزيرة الخارجية وقبل سفر الرئيس شيراك إلى لندن. الرسالة موجزة وتريد ان تقول: نحن هنا.
ماذا تعني «نحن هنا»؟ يذكر أن رايس تعتبر خبيرة في شئون الاتحاد السوفياتي السابق، ولعبت دوراً في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي في التحريض عليه. وهي أيضاً متطرفة في نزعتها الدبلوماسية وصاحبة رأي في نظرية «ملء الفراغ الأمني في الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفياتي». وهي أيضاً شجعت على ضرورة ملء تلك المناطق بالوجود العسكري الأميركي عن طريق مد شبكة دول الحلف الأطلسي (الناتو) إلى حدوده الغربية وزرع القواعد في المناطق المحيطة به في حدوده الجنوبية. وأهم من كل ذلك ان رايس هي التي أبلغت الرئيس بوتين بانتهاء مفعول الاتفاقات التي وقعتها موسكو مع واشنطن في زمن «الحرب الباردة». وعندما سأل بوتين: لماذا؟ أجابته رايس بلغة قاسية (أوامر دبلوماسية): «لأن الاتفاقات وقعت مع دولة لم تعد موجودة».
هذا الكلام يعتبر إهانة في اللغة الدبلوماسية. وفوق ذلك لم يكتف بوش بتعيينها في وزارة الخارجية بل عين نائبها ستيفن هادلي مكانها مستشاراً للرئيس في الشئون الأمنية (القومية). وهادلي معروف بتطرفه ومن انصار نظرية سياسة الدفاع الصاروخي وتطوير أسلحة نووية صغيرة يمكن استخدامها في الحروب ضد المدنيين.
الرئيس بوتين كما يبدو اعتبر أن حركة المبادلات والتشكيلات الجديدة التي اعتمدها بوش في ولايته الثانية حركات لا تبشر بالخير، وهي بداية إشارات لسياسة تصعيدية ضد روسيا والاتحاد الأوروبي وربما الصين. أي أنها عودة إلى فترة «الحرب الباردة» التي اتسمت بالتوتر الدولي والسباق نحو التسلح من جديد.
«نحن هنا» هو عنوان الجواب الذي أعطاه الرئيس بوتين. فهو بكل بساطة أعاد تذكير واشنطن بأن روسيا دولة نووية ومتفوقة في التكنولوجيا العسكرية على الولايات المتحدة، وانها قادرة على تطوير قدراتها، وتستطيع الرد على أي تهديد. واشنطن فهمت الرسالة، وحاولت التقليل من اهميتها وهذا يعني بلغة دبلوماسية أنها وصلت بسرعة.
العالم إذاً في وضع متوتر والقلق هو المسيطر وبناء الثقة بين اطرافه يكاد أن يصل إلى طريق مسدودة تذكر الناس بتلك الأيام في فترة «الحرب الباردة» وهي لم تعد باردة في الكثير من المناطق.
هذا الوضع القلق تتحمل السياسة الأميركية مسئوليته، فهي اتجهت نحو دفعه نحو المزيد من العنف والفوضى. وإذا لاقت تلك السياسة الارتياح لدى الناخب الأميركي فهذا لا يعني أن العالم مطمئن لمثل ذاك الارتياح
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 806 - الجمعة 19 نوفمبر 2004م الموافق 06 شوال 1425هـ