عانى الفكر العربي (الإسلامي) من العجز عن التوفيق بين النص والواقع أو بين القديم والمتغيرات الزمنية. وبسبب تلك المعضلة تولدت اجتهادات كثيرة حاولت التركيب بين المتناقضات توخياً للاتفاق على حل مشترك يستجيب للواقع من دون خيانة/ مغادرة النص.
ومثل كل الخلافات انقسم الفكر العربي (الإسلامي) إلى تيارين كبيرين تفرعت عنهما مدارس متعارضة، لكنها اتفقت على مسألة البحث عن الحقيقة ومصادرها الأولى ونهاياتها المفتوحة على كل الاحتمالات.
اتجه التيار الأول إلى النص وحاول قراءة إشاراته من خلال دراسة دلالاته البيانية واللفظية، فتوصل إلى معادلة تقول إن كل ما هو علمي ويتفق على صحته هو شرعي بالضرورة. فالعلم/ العقل في صياغات تيار فلاسفة الفقه هو منطق افتراضي - نسبي يخضع للصواب والخطأ، فإذا أثبتت التجربة صحته فهو بالتأكيد لا يتعارض مع الشرع بل يؤكد صحة ما قاله النص وأكده المنزل.
انطلق هذا التيار (فلاسفة الفقه) من فرضية بديهية وهي أن النص هو العقل المطلق (النهائي) وأما غيره فجزئي ومتغير وبالتالي فإن تطور العقول الجزئية نحو الكلي هو علامة من علامات تقدم الإنسان من الأدنى إلى الأعلى.
إلى العقل المطلق أكد فلاسفة الفقه أن الحقيقة واحدة وطرق الوصول إليها متعددة شرط أن تكون كلها صحيحة. فالخطأ والصواب لا يلتقيان للوصول إلى الحقيقة نفسها وإذا كان هناك أكثر من طريق فلابد أن تكون كلها صحيحة. فالتعارض ليس في الطرق بل في الجوهر (الصواب أو الخطأ).
انفرد ابن حزم الاندلسي باكراً بنظرية خاصة ومفارقة في قراءة صلة الحقيقة بالوسيلة (الواسطة). فهو أكد أن الحقيقة واحدة والطريق إليها لا يتعدد أو ينقسم. فالواحد عنده يؤدي إلى الواحد بينما التعدد (تنوع الطرق) يؤدي إلى انقسام الواحد وتعدد الحقائق. وانطلاقاً من فرضيته تلك خاض ابن حزم سجالات عنيفة وحادة ضد خصومه وكل المخالفين لرأيه لتأكيد وحدة الحقيقة والطريق الواحد إليها.
على الضد من التيار الأول خاض التيار الثاني (فقهاء الفلسفة) سلسلة نقاشات توخت التوفيق بين المنزل وغيره من نصوص. وتركزت سجالات تيار فقه الفلسفة على الانقسام ومصادره وليس الحقيقة وفرادتها. فالواحد عند هؤلاء لا خلاف عليه، بل ما بعد الواحد، أي الموجودات اللامتناهية من الانقسامات الدائمة. وسؤال فقهاء الفلسفة: إذا كان الواحد لا ينقسم فمن أين جاءت الانقسامات (الموجودات)؟
وللرد عليه اتجه فقهاء الفلسفة إلى جمع النصوص وربط الأضداد بغية الوصول إلى حل توفيقي يؤيد النص وفي الآن يحيله إلى مصادر أخرى. وأوقع التعارض هذا التيار في تخبط فكري ضاع بين حقيقة كلية لا تتغير وأفكار نسبية يعاد انتاجها في كل فترة زمنية. فالجمع بين المطلق (النهائي) والنسبي (الزمني) شكل أزمة مزمنة لتيار فقه الفلسفة وساهم في اختلافاته نظراً إلى تعدد مراجعه ومصادره. فالفارابي مثلاً وجد في نظرية الفيض (ما يفيض عن الواحد) المخرج العقلي لتفسير التناقض وتعدد الموجودات. ومن الفارابي تفرعت اجتهادات حاولت تركيب المتناقضات بين الكلي والجزئي أو بين المطلق والزمني.
إلا أن تيار التوفيق بين الشريعة والحكمة لم ينجح في الاتفاق على جواب محدد لسؤال محدد فانقسمت الردود وتعارضت إلى حد التناقض نظراً إلى تنوع الاختصاصات والمنابت الفكرية. فصاعد الأندلسي لجأ إلى «التاريخ» لصوغ نظرية تقرأ تطور الأفكار وتلاقحها وانصهارها منذ بدء الزمن المعروف إلى عصره. فبدأ بالصين والهند شرقاً وانتهى في الأندلس غرباً ليؤكد أن الفكر هو نتاج جهود بشرية مشتركة انتقلت وتواصلت حتى انتهت إلى أعلى مراتبها في الأندلس.
ولجأ ابن باجه (الصائغ) إلى «الفلسفة» فحاول الدمج بين أفلاطون وأرسطو في سياق شطحات صوفية غامضة لينتهي إلى الفصل بين المدينة والمثقف. فالمدينة برأيه ليست كاملة والمثقف الكامل مضطر للعيش فيها. وتناقض المثقف مع مدينته يدفعه إلى العزلة (الغربة) أو التكيف مع النسبي. فالتكيف عند ابن باجه هو مجال التوفيق بين الكلي والجزئي. والكل في تغير مستمر إلا الواحد لأنه خارج الزمن وكل ما عداه يدخل عليه الزمان (الحياة والموت) إلى لحظة القيامة.
واستخدم ابن طفيل «الرمز» والتورية في قصته الفلسفية (حي بن يقظان) للاشارة إلى تعلم الإنسان من دون معلم. فالتجريبية التي تفرضها الحاجة تدفع العقل نحو التفكير والابتكار واستخدام أدوات لتطويع الموجودات إلا أن الإنسان يبقى في النهاية بحاجة إلى الإنسان للتبادل والتحدث والتعبد حتى لو كان في جزيرة معزولة لا يصلها إلا الهاربون من الجماعة أو الباحثون عن الحقيقة.
وحاول ابن رشد تأسيس منهج «الاتصال» للتوفيق بين الشريعة والحكمة انطلاقاً من سؤال منطقي: ما هو الحاجز الذي يمنع امكان التوافق ما بين النص والفلسفة؟ وعندما لم يجد أي مانع يعطل امكانات الاتصال اتجه نحو الجمع من دون أن يتوصل إلى التوحيد.
وبعد رحيل قاضي قرطبة اتجه ابن عربي نحو تركيب مجاميع معرفية في بوتقة فلسفية - صوفية مستخدماً كل اشارات ابن باجه ورموز ابن طفيل وأعمال الإمام الغزالي إلا أنه لم يوفق في ترتيب منهجية توحيدية تتجاوز توليف المتناقضات.
وبسبب تناقضات تيار فقه الفلسفة تراجع أمام هجمات تيار فلسفة الفقه وانتقاداته. فأعمال فقهاء الفلسفة على كثرتها وتنوعها فشلت في انتاج أدوات معرفة أصيلة تؤسس منهجية تفكير قابلة للتطور واستيعاب الجديد. وأدى تناقض المراجع والمصادر إلى تعارض المناهج وانقسامها وعدم توافقها على تحديد المفاهيم.
إلى تعدد المدارس جاء تطور المعرفة نفسها وتراجع أهمية العلوم القديمة (الاغريقية، الفارسية، الهندية وغيرها) مثل العلم البرهاني ومقاييس ارسطو. فالتطور على المستويين الواقعي والمعرفي ساهم في كسر تيار فقه الفلسفة وتقدم تيار فلسفة الفقه إلى أن وقع بدوره في تكرار لفظي وتبلد ذهني حين انتقل العالم من التعددية إلى التدويل، وهو أمر أعاد انتاج أزمة الفكر العربي (الإسلامي) وكشف عجزه عن التوفيق بين النص والواقع أو بين القديم والمتغيرات الزمنية.
مشكلة تيار فقهاء الفلسفة، ليست في التوفيق أو الجمع بين الأضداد، بل تحديداً في عجزه عن التوفيق وتوحيد الأضداد. فالفكر التوفيقي هو منهج تطويري ينقل المشكلات من الواقعي إلى المجرد ويحدد العام في الخاص متنبهاً إلى خصوصية اللحظة الزمنية وحاجاتها ومتطلباتها بينما اكتفى فقهاء الفلسفة بالنقل أو التجميع. وفي المقابل نجح تيار فلسفة الفقه في تكوين أجوبة عملية تربط بين النص (المطلق) والحاجة العملية (النسبية)، في وقت فشل تيار فقه الفلسفة في مهمته. فالقوة التركيبية - التوفيقية كانت تقليدياً إلى جانب علماء الفقه (فلسفة الفقه) فهم أكثر انسجاماً مع الواقع بينما كانت نقطة ضعف علماء الفلسفة (فقه الفلسفة) في عجز هذا التيار عن التركيب والتوفيق.
أزمة التيار الفلسفي كامنة أصلاً في تناقض مصادره وميله الدائم نحو التجميع والانتقائية. فالنزعة الانتقائية وتعدد مراجعها ومصادرها إلى تطور معارفها لاحقاً تفسر تراجع الفلسفة وتقدم الفقه.
إن فشل مشروع التوفيق (الاتصال) بين الشريعة والحكمة لا يعود إلى منهج جمع الاضداد والتركيب. بل تحديداً إلى عجز التيار عن التوفيق واعتماده الانتقائية والتجميعية في السلوك والمنهج. فجوهر المأزق ليس في التوفيق، بل في الانتقائية التي أطاحت مشروع الربط بين الشريعة والحكمة وساعدت في النتيجة على غلبة فرضية أن كل ما هو علمي وعقلي ومتفق على صحته شرعي بالضرورة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 805 - الخميس 18 نوفمبر 2004م الموافق 05 شوال 1425هـ