لا أعتقد أنه يصح للبعض وصم طائفة بأكملها بالخيانة والعمالة، كما لا أعتقد بأن أي شخص يحترم عقله ومنطق الأشياء في هذا الكون، وأي متابع للشأن العراقي، أن يغض الطرف عن صمت المرجع آية الله السيستاني، والأمر سيان في النجف الأشرف بالأمس كما في الفلوجة اليوم.
موقف آية الله السيستاني وصمته على الاستباحتين (النجف الأشرف والفلوجة الصابرة) يعزّز محاولات عزل الشيعة، من مقلدي المرجع السيستاني، عن مشاعر الخط العام للأمة العربية والإسلامية، ويوسع الفجوة بينه وبين التيارات الشيعية المناهضة للاحتلال، ويؤصّل - صمت المرجع - دينياً دعوات: «العراق للعراقيين» وهي كلمةُ حقٍ أريد بها باطل. فمن دعوة «دعوا العراق للعراقيين»، والتي يقابلها في عدة دول دعوات: «فلسطين للفلسطينيين» و«مصر للمصريين» و«سورية للسوريين» و«لبنان للبنانيين»... إلخ. وهذه رغبة الإدارة الأميركية في المرحلة الراهنة، أما فيما بعد، فيتم تجزئة الدعوة (صرح بها البعض) إلى: «دعوا الجنوب للشيعة والشمال للأكراد والوسط للسنة»، ويتم بعد ذلك ترويج هذه الدعوات في كل الأقطار العربية، وخطة فك وتركيب الدول وتغيير الخريطة الحالية خدمة للمصالح النيوكولونيالية، والكيان الصهيوني وتنفيذ مخطط شارون - اتيان بشأن تقسيم العراق ودول المنطقة، إلى دويلات صغيرة متصارعة.
دعوات التجزئة تلك ليست غريبة، فالتاريخ يحدّثنا عن تفكيك الدولة الأموية لعدة دويلات، وعلى رغم جبروت وطغيان حكام بني أمية، فإننا نجد الفارس العلم ابن خير عباد الله كلهم (علي زين العابدين، الإمام الرابع للشيعة) يقف في خط المواجهة الأول في الدفاع عن هذه الدولة، التي يُسبّ فيها جده من على المنابر، يقف ضد الأطماع الخارجية وعلى الثغور مجاهداً في الفتوحات الإسلامية.
موقف السجاد - والذي لا يحقّ لأي كائن من كان، مذ ذاك التاريخ السحيق إلى يومنا هذا، أن يزايد عليه - يشكّل علامة فارقة في المواقف البطولية المشرفة، أو يقول قائل: إن زين العابدين لم يراع مصالح الأمة العليا!
موقف زين العابدين يقدم أنموذجاً للأجيال المتعاقبة، وصورة إلهامية للمجاهدين في الخطوط الأمامية للأمة، والمرابطين على الثغور (جنوب لبنان أو في العراق)، والتيار الصدري خير مثال لولا تآمر المتأمركين وخذلان الخائنين، قصار النظر.
وعوداً على بدء، فإن المقاومة في العراق تتأثر بعدة عوامل: منها ما هو اجتماعي ومنها ما هو سياسي تكتيكي بائس، فأواصر العلاقات العشائرية (أفخاذ شيعية وأفخاذ سنية) تشد من بعضها البعض وتتعاضد، لذلك لا تجد من أبناء العشائر من يصمت، فضلاً عن تأييد دعوات عزل العراق عن محيطه أو تجزئة الوطن العراقي إلى شمال ووسط وجنوب، لذلك سبّب صمت المرجع السيستاني (على رغم إدانته لتفجير مقر قناة «العربية»، الذي لم تزهق فيه نفس واحدة) عما جرى في النجف بالأمس أو ما يجري في الفلوجة اليوم امتعاض بعض هذه العشائر. وعلى الجانب السياسي (التكتيكي) يكفي أن نعرف أن أحد أعمدة التآمر والخذلان للتيار الصدري هو الشقي البائس الجلبي! وفي ذلك: «يشير مصطلح الضمير، سياسياً، إلى تغليب صوت الداخل وحسن النية والطوية، على جشع الإنسان السياسي وطمعه بما لدى الآخرين». ويبقى أن صمت المرجع السيستاني على كل هذه الدماء التي تسيل لا يطاق، ويدوّن في سجلات التاريخ كما دوّنت الأقلام موقف الإمام زين العابدين. فأي الموقفين أحق بالاختيار؟
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 804 - الأربعاء 17 نوفمبر 2004م الموافق 04 شوال 1425هـ