بسرعة أكثر من المتوقع بدأ البيت الأبيض بإعادة تنظيم طاقمه الذي سيقود واشنطن إلى مزيد من التشدد. وحتى يكتمل عقد التطرف لابد من ترتيب ألوان البيت لتنسجم مع تصورات الرئيس الذي زادت ثقته بنفسه بعد فوزه بولاية ثانية.
حركة المناقلات والاستقالات والتعيينات يرجح أن تستمر في الأسابيع المقبلة وتحتاج إلى أسابيع أخرى حتى تلقى موافقة الكونغرس لتكون العدة والعتاد والمعدات جاهزة للعمل في مطلع العام المقبل حين يقسم الرئيس اليمين الدستورية لولايته الثانية.
إنها مسألة أسابيع وبعدها ستشهد المنطقة المزيد من الضغوط على أكثر من صعيد. هكذا على الأقل يمكن تصور المسار العام، إذ لا توجد مؤشرات مضادة تلغي مثل هذا الاحتمال. فالرئيس الأميركي يبحث عن الانسجام في إطار استراتيجية تقودها كتلة شريرة تسيطر على قرار البيت الأبيض. والاستراتيجية أعلن عنها مراراً ولم تتراجع واشنطن عن خطوطها العريضة حتى في لحظات الهجوم المضاد الذي قاده الحزب الديمقراطي عليها.
الاستراتيجية تعتمد سياسة التطويع. والتطويع كما تراه كتلة الشر يحتاج إلى قوة عسكرية تختزل الزمن وتقصر المسافات. والمنطقة المرشحة لسياسة التطويع هي «الشرق الأوسط» بصيغه الجغرافية الكبيرة والصغيرة والمعدلة. ومنطلق التطويع يبدأ في العراق بإعادة احتلال مدنه ولو كلف الأمر آلاف القتلى والجرحى. فالعراق هو محك التجربة، فإذا نجحت يمكن الإطلال منه إلى الخارج. وحتى تتمكن واشنطن من مدّ ذراعها إلى الخارج لابد لها من تسوية الأمر في بلاد الرافدين ليس عن طريق صناديق الاقتراع (كما يتوهم البعض) بإعادة نشر القوات الأميركية وتعزيزها بالمال والسلاح.
الملف العراقي هو محك نجاح تجربة التطويع وحتى تنجح الخطة لابد من إقرار مسألتين: الأولى تمديد وجود قوات الاحتلال لثلاث سنوات مقبلة، وهي كافية لإرباك المنطقة وتخويفها وزرع الإرهاب وعدم الاستقرار في داخلها وجوارها. والثانية تأجيل الانتخابات العراقية التي قيل إنها ستعقد في يناير/ كانون الثاني المقبل لمدة لا تقل عن سنتين حتى يضمن الاحتلال نجاح المجموعات السياسية التي يطمئن لها. فإجراء الانتخابات يتطلب برأي واشنطن تثبيت مواقع الموالين للولايات المتحدة، وإلا فإن الفوضى العارمة هي البديل في اعتبار أن أميركا لم تخض هذه الحرب من أجل انتزاع الدولة من صدام وتقديمها على طبق من فضة إلى طرف محلي يتمتع بالشعبية والثقة ويطالب بخروج الاحتلال.
بعد إحكام القبضة الحديد على العراق وتطويع أهله ومراجعه الدينية والسياسية تبدأ واشنطن بفتح ملفات أخرى باسم ملاحقة الإرهاب وتفكيك شبكات «القاعدة» في دول الجوار. وليس خافياً على المراقبين السياسيين المعاني المقصودة من تلك الإشارات التي يطلقها أحياناً بعض أعضاء الحكومة العراقية واتهام إيران وسورية وحزب الله بتحريك المقاومة العراقية. فالكلام الذي يصدر عن بعض المستفيدين من الاحتلال الأميركي لا يقل تطرفاً عن ذاك الذي يطلقه وزراء إدارة بوش في واشنطن. وهذا يعني أن الاحتلال أوجد لنفسه خلال فترة 18 شهراً مواقع نفوذ تعطيه التغطية المحلية والشرعية الرسمية لانتهاك أمن الدول المجاورة.
هناك إذاً ملفات كثيرة وكلها مرتبطة بمسار السيطرة الأمنية على العراق ومدى نجاح الاحتلال في تطويع الناس وقهرهم وإذلالهم حتى تشكل تلك التجربة النموذج المقترح للتعامل مع دول المنطقة وشعوبها.
إلا أن هذه الاستراتيجية تحتاج إلى تكتيكات حتى تصيب النجاح العسكري. وفي طليعة التكتيكات تثبيت سياسة خارجية منسجمة أكثر مع توجهات الثنائي تشيني - رامسفيلد. وهذا ما تحقق فعلاً بعد استقالة كولن باول. بعد ذلك ستبدأ سياسة التهدئة مع الاتحاد الأوروبي، وهذا ما تكفل بتحقيقه رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير في زيارته الأخيرة لواشنطن.
أوروبا كما يبدو أرهقتها الضغوط الأميركية، وإذا نجح بلير في لعب دور الوسيط لاحتواء الاختلافات تكون واشنطن نجحت في إزالة عقبة من أمامها وقللت كثيراً من مخاطر المراقبة الأوروبية على سياساتها الدولية. وحتى ينجح بلير في مهمته تلك لابد له من تقديم تنازلات تكتيكية تعطي بعض الحصص لأوروبا (في السودان وتشاد وساحل العاج مثلاً) مقابل ضمان ترتيب العلاقات في إطار «المد الحيوي» للولايات المتحدة في العراق ودول الجوار. ويبدو أن مثل هذا الاحتمال ليس مستبعداً في الأسابيع المقبلة.
البيت الأبيض إذاً يتجه بسرعة نحو الانسجام وتشكيل طاقم متماسك في سياسته الخارجية، وهذا إذا حدث بالتفاهم مع أوروبا... فعلى دول «الشرق الأوسط» أن تستعد لمرحلة ما بعد العراق
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 804 - الأربعاء 17 نوفمبر 2004م الموافق 04 شوال 1425هـ