يظل الشرق والجنوب مستودع أسرار ومنجم خيال... يظلان واحدا من المرجعيات اللازمة لتقرير مسار كثير من الأساطير والخرافات وحتى مسار ما بعد عما وما ينتج عنهما على مستوى الوعي وما يتمخض عن ذلك الوعي من تفكير أو انجاز.
الدراسات والبحوث والمعالجات في هذا المجال لا يمكن احصاؤها في مقال محكوم بالمساحة أولا وبالتكثيف الذي يتوخاه ثانيا.
في فيلم «The green mile» الذي يؤدي بطولته «توم هانكس»، ثمة معالجة تتكثف ويتم وضعها تحت مجهر وعيين: شرقي/جنوبي، مع التأكيد والحرص على فصلهما تماما عن الوعي الغربي، وفي ظل حرص على استلهام وتوظيف معالجات ضمن تلك المظلتين، يظلان شيطانين سوداوين بأسنان بيضاء لمّاعة وأذرع كأنها الصخر... هكذا هي الصورة النمطية المراد لها أن تكون.
لا تحتاج إلى أن تفتح عينيك بكامل أبعادهما لتقرأ ما يراد توظيفه في هذا الصدد... لا مجال لقراءة وتحليل المشاعر... لا مجال للتفسير لاكتشاف حال من التسامي الناقص والمبتور يسعى إلى إيصاله مخرج الفيلم. ثمة تخمة جاهزة على صعيد صورة نمطية يتم تكريسها في كثير من المعالجات والمواقف، من حيث ان الشرق والجنوب لا يمكن أن يهباك الا الطيش اللفظي وطيش الممارسة. النسْخ المتكرر لأبطال تبتر أعضاؤهم ، ونساء يتخلصن في موقف أسطوري من ضجر الرفاهية. ثمة مراتب تُعَدُّ وكأنها مدانة وتحت سيطرة أكوام من الانفعالات.
الرجل الأسود ذو الشفة الغليظة والعضلات المفتولة يتم سوْقه في مشهد وصورة مهينتين مع اصرار من الحارس الذي يسوقه في الممرات المؤدية الى حيث ينتظر تنفيذ حكم الإعدام عليه بعد اتهامه بقتل طفلتين... يردد الحارس في الطريق: رجل سيئ في طريقه الى الإعدام... يكررها لأكثر من 8 مرات، والحارس ذاته يتم تنميط سلوكه بحيث لا يعبر عن المدنية التي من المفترض أن ينتمي اليها... مدنية قبول الآخر بغض النظر عن لونه وجنسه... وبغض النظر عما ارتكبه، اذ نحن أمام إدانتين في هذا المقام... إدانة رجل أسود تسلط عليه الشاشة وهو يمسك بفتاتين لا تتعديان السادسة من عمرهما، وتتم إدانته والوصول به الى حيث هو فيThe green mile ، وحارس لن تحتاج الى عظيم جهد كي تكتشف انه متورط في العميق والخطير من العنصرية... الأول يدان ... والثاني يدان لتبرئة الخلل والتجاوزات في الصميم من المدنية التي تنتج مكانا... ومُدينا لبشريتهم... إدانة معظمهم مسبقا كونهم لا يمتون الى اللون وربما الى اللغة وربما المزاج بصلة... المزاج بمفهومه المرتبط بالمدينية ذاتها، ولا علاقة له بأي مفهوم عقيدي أو ديني، لذلك يصر كاتب السيناريو أولا والمخرج ثانيا وربما بايعاز من المنتج ثالثا على أن يبدو الرجل الأسود مفتول العضلات غير مدرك لحقيقة اسمه، وخصوصا اسمه الثاني «كوفي»... اذ تتكرر لازمة «شراب» وتتكرر معها لازمة ثانية «مع اختلاف في التهجئة» وكلاهما تنمان عن تكريس حال أو صورة نمطية للسذاجة والغباء وربما الضياع على مستوى الهوية وخصوصا حين يصر صناع الفيلم على تأكيد جهل وسذاجة ذي العضلات المفتولة.
المخرج لم يغفل قطع الطريق على تفسيرات قد تبرز وتطرأ هنا أو هناك... على سبيل المثال: يقع الحارس العنصري في قبضة «كوفي» ذي العضلات المفتولة بعد أن تم تهريبه من زنزانته وبايعاز من ضابط العنبر الذي يقع فيه سجناء محكوم عليهم بالإعدام... يتم تهريبه لشفاء زوجة آمر السجن التي تعاني من السرطان بعد أن نجح في شفاء ضابط العنبر الذي كان يعاني من التهاب في المثانة، وفي مشهد لا يخلو من التسطيح والسذاجة ( وهي الصورة ذاتها المقررة للشرق والجنوب معا) يعمد الرجل الى سحب الداء عن طريق الفم لتنتشر في الزنزانة أسراب شبيهة بالجراد كتعبير أو رمز لآفة استوطنت الرجل وتخلص منها بفضل الرجل الأسود.
الإيقاع الدرامي يثير حالا من الانتباه في عدد من المشاهد، وخصوصا مشهد سجين جديد يفد على الموقع وهو في حال خدر كبير، وهو بذلك يستدرج جموع الحراس الموكولين بايصاله الى الموقع... وفور وصوله ينهال عليهم ضربا في مشهد كرس المغامرة وعنصر المفاجأة وبأسلوب لم يخلوان من السذاجة على رغم تصاعد الإيقاع الدرامي.
الفيلم لم يخل من مساحات شعرية فاتنة على مستوى الحوار والمشاهد، ربما من بينها مشهد شفاء زوجة آمر السجن التي تعاني من السرطان وانتباهتها وتحولها الى ما قبل المرض في ثوان معدودة... ومعرفتها بسرّين ظل الرجل يكررهما «كوفي» - «مثل الشراب» و«مع اختلاف في التهجئة»... وارتجالها بالقول: رأيتك في الحلم في مكان مظلم... كنا معا... تعانقنا... وكأنه تعبير عن تفاصيل اقترابه من سريرها وهي تكاد تحتضر ليبدأ ينفخ فيها سر الشفاء. وهنا لابد من الاشارة الى أن نفخ سر الشفاء «الحياة» تعبير عن الاعتماد على وسائط غيبية لا يؤمن بها الغرب الغارق والمتورط في حال من التجريبي والمادي المفرطين. كما يعبر عن حال عجز ماثل لدى المدنية الغربية أمام الكثير من العلل وحتى المواقف... اذ ليس وحده السجين سجينا بل حتى السجان يبدو سجين ما يجهله وما لا يعرفه.
المساحة الأخرى التي يمكن ملاحظتها في عدد من لقطات الفيلم تتركز في مشهد أحد السجناء الفرنسيين وعلاقته بفأر يظل يشغل حراس السجن بجرأته وتجوله الحر في العنبر، وآخر في مشهد اعدام الرجل إياه (مروّض الفأر الذي كان يحلم أن يدر عليه أموالا طائلة حين يستغله كنجم في سيرك يتمناه) بعد أن تعمد الشرطي (العنصري) ألا يغمس الإسفنجة التي توضع على المساحة الحليقة من رأس الرجل المحكوم عليه بالإعدام، ما يتسبب في تفحمه في مشهد مروع تجاوز فعل الإعدام نفسه بمراحل.
على أن أكثر المشاهد شعرية ذلك الذي تمتد فيه يد «كوفي» لكي يهب «توم هانكس» جانبا من سره وسحره... باطلاعه على جانب غيبي يتعلق بظروف مقتل الطفلتين وبشيء من التفاصيل... تتمرأى أمامه المشاهد لتتأكد لـ «هانكس» براءة «كوفي» من مقتلهما ويتم كسر الشعرية تلك باستمرار الحال على ما هو عليه في محاولة لتأكيد حال من الفصل بين الأسطورة / الخرافة وإن تجسدتا، وبين إنفاذ القانون الذي يمثله الرجل الأبيض، وتبدو حال من القطيعة واضحة بين محاولة الفهم ومحاولة التفسير وتوظيفهما معا لتقرير حال من العدالة والانصاف بقراءة واقع متحرك وماثل لا يحتاج الى أسطورة أو خرافة ليتم التمييز فيه بين حزمة كبيرة من النقائض على مستوى علاقات البشر والمؤسسات التي من المفترض أن تضع حدا لحال الجنوح والانحراف والخروج على القانون الذي يؤمّن لتلك العلاقات درجات - وان لم تكن حاسمة - من التوازن.
يتيح مشهد ما قبل الاعدام تصاعدا في شعرية الحوار واللقطة... الطريق الى الكرسي الكهربائي... مجموعة الأربعة الذين شهدوا جوانب من إعجاز «كوفي» وتعاطفهم الكبير مع رجل روّض فيهم الكثير من القسوة وهم الذين كانوا يعتقدون بأحقيتهم في القيام بذلك الدور وخصوصا مع الدقائق الأولى التي يلج فيها السجين «كوفي» لمنطقة «الميل الأخضر».
مصافحة ما قبل الاعدام... التردد في إعطاء أوامر تمرير التيار الكهربائي الى جسده... والعودة الى الراوي «هانكس» بعد أن شاخ وأدخل الى مركز لرعاية المسنين وهو برفقة زميلة له في المركز لأحد الأكواخ... ومفاجأة في انتظار المشاهدين... «الفأر» إياه مازال حيا بعد أن عمّر طويلا بفضل ما تسرّب اليه من إعجاز وسحر السجين كوفي وهو في قبضته لحظة تنفيذ حكم الإعدام في الرجل الذي تكفل برعايته ومشاركته الزنزانة.
على أنه يجب ألا نغفل الشعرية التي حواها مسمى الفيلم «الميل الأخضر»... ليس كمسمى يحجب صورة السواد التي تلف السجن ونزلاءه وحراسه، وانما تلك المساحة التي يقطعها السجين - وجلهم من المحكوم عليهم بالإعدام - للوصول الى حتفه، وكأنها «الميل» مسافةً على رغم انها لا تتعدى أمتارا قليلة، اذ كل شيء يميل الى اللون الرمادي، فحتى الأسود يستعصي على الحضور في لحظة ما قبل الوصول الى الكرسي الكهربائي... الرمادي وحده بما يحمله من سريان كهرباء الموت... سريان لحظة الانفصال عن العالم والضحايا والجلادين والصراخ الأخير والأبدي.
الفيلم يحاول تأكيد أن الأسطورة لم تعد حكرا على الشرق... فالجنوب هو الآخر كان ولايزال قادرا على انتاج سحر أسطورته الخاصة القادرة على أن تكون مرادفاً لأسطورة الشرق وبقية الجهات
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 804 - الأربعاء 17 نوفمبر 2004م الموافق 04 شوال 1425هـ