من دون الحاجة إلى تيقين للتحليل أو التثبّت من الحدث فإن رحيل الرئيس ياسر عرفات يُمثل انتكاسة غير عادية للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني برمّته، ليس فقط لأنه يُشكّل خيال ورمزية القضية بل لأنه يُمثل القوتين الرئيسيتين: قوة الرجل وقوة اللحظة التي احتكر تحيينها بحِنكَة وذكاء وبأقل الخسائر وأهون الجروح.

لم يكن ياسر عرفات زعيماً عادياً أو سياسياً كغيره من سياسيي مرحلة مُنقضية أو هالكة بل كان مُحركاً للحوادث ورباناً شاطراً في إدارة اللعبة السياسية، فقد استطاع وفي فترة قياسية أن يخلق كياناً تنظيمياً ثورياً ذا قوة عسكرية ضاربة، له بنيانه الهرمي، تحته ينقسم العمل الفلسطيني إلى مناطق مُستقلّة وله مكاتب عسكرية وإعلامية في كل معسكرات اللاجئين وله ذراع عسكري (العاصفة) يحوي عدة ألوية (اليرموك، القسطل، الكرامة، القوة 17) حرب حقيقية.

كانت حركة التحرير الفلسطينية (فتح) - وطبقاً لوثيقة سرية أميركية حصل عليها الطلبة الإيرانيون الذين اقتحموا السفارة الأميركية في طهران بعد انتصار الثورة الإسلامية - لديها برنامج تدريبي عسكري وتنمية للقدرات وأعمال الكوماندو والتخريب مُستفيدة من دعم بعض دول المعسكر الشيوعي كالصين وفيتنام وألمانيا الشرقية. لم يكن الرئيس عرفات بقاصر على أن يلعب مع الكبار لعبتهم وأن يأخذ منهم ما يحتاج بأكثر مما يأخذونه منه، فجسَّر علاقات واسعة مع دول إقليمية وغير إقليمية فحصل على السلاح من موسكو بعد زيارة عبدالناصر إليها، ثم حصل على اعتراف القادة العرب في قمة الرباط 1974 بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، كما أنه استطاع أن يستحلبهم المال، فحصل (وفي مدة أحد عشر عاماً) من السعودية على 954 مليون ومن الكويت وليبيا كل على حِدَة على 500 مليون دولار ومن الإمارات على 300 مليون دولار حتى كوَّن ثروة يُعتدّ بها لأي معركة (عسكرية أو سياسية) مع «إسرائيل»، كما حصل على جوازات سفر إيرانية مُزوّرة لاستخدامها في مطارات أوروبا.

وعندما ضاقت به (أو ضُيِّقَت عليه) أرض دمشق وعمّان والقاهرة وتونس (التي اعتبرها نفياً واغتيالاً سياسياً له ولمريديه) استطاع أن يصوغ بمهارة سياسة جديدة للمنظمة ويُحوّل مؤشر حركتها نحو ساحة معركة أخرى بسلاسة ودقة، حين دخل في لعبة دولية خطيرة مع «إسرائيل» والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي سُمِّيَت بـ «أوسلو»، لكنه أجاد إدارتها حين مارس مع تل أبيب سياستها نفسها في الحنث والمكر وعدم احترام الاتفاقات فنزل إلى الداخل الفلسطيني ومعه أكثر من أربعين ألفاً من المُسَلّحين والمُنظَّمين، ثم أنشأ سلطة وطنية بها أكثر من اثني عشر جهازاً أمنياً شكّلها من عناصر الفتحاويين والمقاتلين الثوريين من ألوية حركة فتح، ليس لحفظ الأمن أو وقف الانتفاضة كما كان يأمل الإسرائيليون بل لإعادة التنظيم لها من جديد وإفراز أُطر مُسلحة مُتولّدة (كتائب شهداء الأقصى مثالاً). ولذلك فإن الاجتياح الإسرائيلي (أو ما كان يُسمّى بعملية السور الواقي) لمناطق السلطة الفلسطينية قد استهدف أكثر من 600 عنصر من تلك الأجهزة التي شاركت بقوة في انتفاضة الأقصى.

كانت «إسرائيل» قد تنبّهت بأن شريكها في السلام ليس طعماً سائغاً أو مُجرّد مُحارب قديم ملّ من حمل البندقية وشاء أن ينزلها من على كتفه ليستريح بل هو الخصم ذاته الذي طاردته وطاردها في أرجاء كثيرة من العالم ودبّرت ضده الكثير من عمليات التصفية، فهذا الخصم لم يكن بطناً رخواً في مفاوضاته كما في حِرابه، ولم يلقِ ورقته في مُربعها كما كانت تعتقد، وقد ظهر بيان الخيط الأبيض من الأسود جلياً بعد محادثات كامب ديفيد 2 ورفض تمرير قضية اللاجئين حسب الهوى الإسرائيلي، وبعد أن سّربت المخابرات البريطانية ام آي 6 للموساد الإسرائيلي أن عرفات يُقدم (سراً) لكل عائلة شهيد فلسطيني 2000 دولار، ولكل عائلة جريح 400 دولار، ويبني بيوت الاستشهاديين التي تهدمها الجرافات الإسرائيلية.

كان عرفات قد بنى سجوناً وزنزانات في الضفة الغربية وغزة ليكمل اللعبة مع خصمه، إلاّ أن تلك السجون قد أصبحت باباً دواراً يدخل فيه السجين ويخرج في حينه (على رغم بعض التجاوزات التي حصلت والتي تستحق النظر بعناية) حيث كان الكثير من المناضلين الفلسطينيين قد اتخذوا من تلك السجون مكاناً آمناً لهم ضد عمليات الاغتيال. وكانت تلك فرصة ليستجمعوا قوتهم من جديد، وقد عرفت «إسرائيل» تلك الخديعة فعمدت لمرات عدّة إلى قصف تلك السجون عبر طائراتها السمتية بهدف اغتيال من فيها من عناصر نَشِطَة.

أقول هذا الكلام وأنا متيقن بأن البعض من الأصدقاء قد لا يُعجبه هكذا حديث، باعتباره مُجانباً للصواب نظراً لما يكتنزونه من تُهم التخوين الظالمة للرجل الفقيد، وهو اختزال غير بريء وتأجيل إرادي للحقيقة، فعرفات لم يكن بائعاً لقضيته أو وطنه لأنه يعرف بأنه إذا ضاع الحافز الوطني فأي عسكري يعرف بأن التضحية بالدم انتحارٌ لا فائدة منه، كما أن الرجل لم يكن كمبرادورياً ولا عاش كذلك، وأتمنى أن يُثبت التاريخ تلك الحقيقة