التهديد بالاستقالة أداة ضغط آنية على الحكومة، والتهديد بمقاطعة الانتخابات النيابية المقبلة أداة ضغط مستقبلية واحتجاج على «السيستام» المائل في تراتبية السلطات في الدولة وعدم أهليته لتلبية طموحات المواطنين. الحكومة من جانبها، لحد الآن، لم تعر انتباهاً للتهديد، وأعتقد أن جلالة الملك حفظه الله التفت لها (الاستقالة ومقاطعة الانتخابات المقبلة) لما تشكله من أثر كبير على نجاح المشروع الإصلاحي برمته، وبما تعبّر عنه من إحباط في أوساط المجلس المنتخب.
الحكومة - بعكس ما صرح به أحد نواب الأصالة حديثاً - ماضية في عدم التجاوب مع المجلس النيابي وخصوصاً مع كتلة الأصالة، ومع الأسف أن الكتلة اكتشفت عدم التعاون والتجاوب أخيراً؛ بينما اكتشف الكثير من المراقبين عدم تعاون الحكومات العربية والإسلامية مع الإسلاميين منذ سنين عدة، وفي أمكنة مختلفة، من إسلام آباد إلى القاهرة، ومن عمّان إلى الجزائر... اكتشفوا ذلك أيام ما كان «بعض» النواب لم يقرأ عن السياسة ودهاليزها حرفاً واحداً!
إن تهديد «عمومية الأصالة» باستقالة نوابها ومقاطعتها للانتخابات المقبلة، يحمل في طياته الكثير من المضامين والأسئلة، وأيضاً ان التهديد قربان يقدم لقاعدة الأصالة الشعبية التي جددت البيعة بعض الشيء للأصالة بعد الفرقة التي كانت بادية في ساحتها السياسية، إذ تشكّل الاستقالة موقفاً مبدئياً مشرفاً، ولا يشك عاقل في ذلك، ويعتبر التهديد بالاستقالة أداة مناسبة في مواجهة تصلب الحكومة و«تطنيشها» لمطالب حليف رئيسي في المجلس النيابي. وكذلك من مضامين التهديد بالاستقالة «فك الارتباط» الشكلي مع الحكومة من جهة، وإشارة لآخرين (الحكم، والقواعد الشعبية) من جهة أخرى.
الأصالة، لم تستغل ولم تختبر على الإطلاق قوتها (البرلمانية والشعبية) في فرض أجندتها على الحكومة سواء في تطبيق الشريعة (المطلب الرئيسي للكتلة) أو في تحسين مستوى المعيشة أو في القانون الأهم على الإطلاق (الضمان الاجتماعي)، هذا القانون الممتاز كان من الممكن أن يمتص نقمة الأوساط الشعبية من مختلف طوائف وطبقات وفئات الشعب، لو أن «الأصالة» مارست ضغطاً متواصلاً باتجاه تطبيق هذا القانون لأثمر هذا الجهد، لكن مازالت الفرصة سانحة، ويجب على نواب الأصالة الدفع بهذا القانون، فالأصالة تمتلك قواعد شعبية ليس بالإمكان التقليل من أهميتها، وبالتالي ليس من المعقول أن يكون نوابها على هامش النظام السياسي في تقرير أمور الحكم والإدارة!
بإمكان الأصالة، كجمعية سياسية، أن يكون حالها أفضل مما هي عليه، وخصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار تعدد الكوادر المهمشة المنتمية إلى الجمعية أو خطها العام، وعدم توظيفهم في خدمة الأهداف الاستراتيجية البعيدة، وكذلك لا يختلف حال الأصالة كثيراً عن باقي الجمعيات السياسية الموجودة حالياً، التي تتخذ قراراتها في دائرة ضيقة لا تتسع لأكثر من أشخاص على عدد اليد الواحدة فقط! وعليه فإن توسيع دائرة الحوار، وخرق أجواء الموافقة الدائمة على القرارات، تولد أفكاراً نيرة ومفيدة للجمعية بلا ريب، وخصوصاً إذا كان أصحاب هذه الأفكار يحملون عقولاً متقدة وضمائر يقظة.
المشكل لدى الأصالة ليس في تبني قضايا يراها البعض هامشية/ فئوية (خاصة بالسلف)، المشكل في عدم ضغطها باتجاه القضايا الرئيسية لدى شرائح المجتمع المختلفة، ومن تلك القضايا والمشكلات: تحسين مستوى المعيشة، الإسكان، البطالة، «جرجرة» المفسدين إلى المحاكم. وأيضاً من القضايا التي يجب أن يكون لنواب الأصالة فيها صوت مسموع داخل وخارج أروقة المجلس: قضية الشبان الستة، معتقلي غوانتنامو (لم يوقع أي عضو نيابي سلفي على العريضة المرفوعة إلى السفارة الأميركية، مع تبني المنتمين للأصالة العريضة في أكثر من مسجد)، قضية موظف الجوازات، وقضية قانون الصحافة، وقانون الجمعيات السياسية المقترح (أول المتضررين من القانون الجمعيات الإسلامية!)... وغيرها من قضايا محورية لا تقل أهمية عن التعديلات الدستورية - سبب المأزق السياسي للنواب حالياً - ووقوعهم في «حيص بيص» وبالتالي عجزهم عن حلحلة تلك القضايا الرئيسية.
الأصالة في تهديدها التقت بطريق غير مباشر مع المقاطعين، وذلك ما يفرض سؤالاً على الجميع (الحكم والجمعيات السياسية): أليس ما ذهب إليه المقاطعون يحمل شيئاً من الصحة بالنسبة إلى السلطة التشريعية، ولو بنسبة 50 في المئة؟! طبعاً النسبة أعلى من ذلك إذا ما راكمنا عليها الكثير من القوانين المعوقة للتطور الاجتماعي والحراك السياسي (قانون الجمعيات السياسية، قانون التجمعات العامة، الذي نعته المحامي محمد أحمد - شافاه الله - بقانون «الصمت العام»، أو «الكبت العام» كما وصفه الزميل قاسم حسين) والمؤشر السلبي لحرية الصحافة!
إن نجاح جمعية التربية الإسلامية (القاعدة الأولى لتنظيم الأصالة السياسي) هو بجهودها المتفرقة وقدرتها على إدارة العمل الخيري، وبالتالي من المؤمل أن ينعكس نجاح العمل الخيري الاجتماعي ويحقق مفاعيل منتجة في الحقل السياسي، أما إذا كان عكس ذلك (أي بلادة سياسية غير منتجة) فالأثر السياسي السلبي سينعكس على العمل الخيري الإيجابي.
لابد من تقييم موضوعي للسلوك السياسي لكتلة الأصالة، وإعادة ضبط البرامج ومنهاج الجمعية وما يتوافق مع متغيرات المشهد السياسي. يرى ماكس فيبر «أن الصواب السياسي متعلق بإصابة الأهداف، وليس بمسألة كلامية أو تنظير فكري بعيداً عن الواقع»، وإصابة الأهداف كما هو واضح من خلال الآليات التي استخدمها النواب غير مهيأ، وعلى ذلك فإن الوضع الحالي يتطلب إبداع آليات مختلفة في التعامل مع الحكومة لعل أحدها ما توصلت إليه الكتلة بالتهديد بالاستقالة ومقاطعة الانتخابات المقبلة. والسؤال الذي يحتاج إلى تدبر وتفكر عميق من قبل المنتمين للجمعية هو: هل تقبل جمعية الأصالة بأن تبقى على هامش الحكم على رغم التكتل النيابي والقاعدة العريضة؟ بمعنى آخر: أليس من الممكن أن يكون للأصالة دور أكبر من الدور الحالي، بكل تجلياته؟
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 803 - الثلثاء 16 نوفمبر 2004م الموافق 03 شوال 1425هـ