باستقالة كولن باول من منصب وزير الخارجية تكون عملية إعادة ترتيب أوراق البيت الأبيض قد بدأت. فاستقالة باول تعتبر إشارة مهمة إلى وجهة السير التي ينوي الرئيس الأميركي اتباعها بعد التجديد له ولاية ثانية.
باول يعتبر في حسابات إدارة واشنطن في العهد الجمهوري العاقل الوحيد، ربما، وسط مجموعة من المجانين. فهو من رموز الاعتدال في إدارة تميزت بالتشدد، وكان على خلاف دائم مع الثنائي نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد.
طبعاً لم تختلف كثيراً سياسة باول المعلنة عن سياسة الثنائي تشيني - رامسفيلد إلا أنه تميز دائماً باعتراضاته على السلوك المشين الذي اتبعته الإدارة، وبذل جهده مراراً في تليين بعض المواقف أو تلطيف الاتجاهات المغامرة والنزعة العسكرية في حسم الاختلافات والخلافات الدولية.
هذه الاعتراضات خرجت في فترات معينة إلى العلن، وأعطت فكرة سريعة عن وجهات نظر غير متفقة على الأساليب والوسائل وإن اتفقت بعض الشيء على الأهداف.
باول كان يميل إلى الوسط فهو أكثر تشدداً في مقاييس الدبلوماسية الأميركية التقليدية، وأكثر اعتدالاً قياساً بالثنائي تشيني - رامسفيلد. ولهذا لعب أحياناً وبحدود معينة بعض التأثير الإيجابي على قرارات الرئيس بوش. فالرئيس الأميركي في ولايته الأولى كان أقرب إلى سياسة الثنائي ولكنه ليس بعيداً عن الاستماع إلى وجهات نظر باول وأخذها في الاعتبار في لحظات حاسمة. وباول احترم كثيراً رئيسه ولم يعارضه أو على الأقل سلك معه دور الجندي الذي لا يخالف أوامر الضابط حتى لو كان يملك قناعة سياسية مغايرة. وحتى لا تضطرب علاقاته الخاصة مع الرئيس ويزيد من صعوباتها الداخلية طلب منه مراراً قبول استقالته ليكون بعيداً عن أجواء التطرف التي يقودها الثنائي.
باول أعلن في مناسبات كثيرة زهده بالموقع، ولمح إلى أنه يريد مغادرة الخارجية حتى لا يصطدم بوزير الدفاع ونائب الرئيس فيحرج الإدارة محلياً ودولياً. وبسبب هذا الوضع المتأزم طلب الرئيس من باول البقاء في منصبه إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية حتى لا تفسر استقالته سلبياً ويستفيد منها مرشح الحزب المنافس.
الآن كما تبدو الأمور أخذت أجواء التطرف تلعب مرة أخرى لمصلحة بوش في ولايته الثانية. فالرئيس ارتاح من معركته الانتخابية وفاز بقوة على منافسه بعد التأييد الكاسح الذي ناله من تيار المحافظين الجدد (الأصولية الأميركية). فالرئيس يدين بالجميل لهذا التيار كما أنه يعترف بدور الثنائي تشيني - رامسفيلد في تغذية ذاك التيار وكسبه إلى جانبه. وفي هذا المعنى يعتبر باول ضحية من ضحايا التطرف الأصولي الذي تقوده كتلة المحافظين الجدد، وبالتالي كان لابد له أن يدفع الثمن ويقر بهزيمة تيار الاعتدال في الحزب الجمهوري بعد أن انهزم الاعتدال الأميركي في معركة الرئاسة.
استقالة باول كانت معروفة ومحسوبة ولكنها كانت مؤجلة أو موضوعة في الدرج حتى تستكمل معركة الرئاسة، وفي ضوء نتائجها كان الرئيس سيقرر الاتجاه الذي ستسير عليه الإدارة. وانتصاره الكاسح أعطى الإشارة بأن زمن باول انتهى وعليه الرحيل. ومغادرته وزارة الخارجية تعني الكثير وما اختيار مستشارة الرئيس لشئون الأمن القومي كوندليزا رايس إلا خطوة إضافية في سياق التشدد (اللغة النارية) التي سيتبعها بوش في ولايته الثانية. رايس أقل تشدداً من الثنائي تشيني - رامسفيلد إلا أنها أكثر تطرفاً من باول. فهي أقرب إلى خط الرئيس مع ميل سياسي إلى تبني خطاب الثنائي على حساب اعتدال باول. فرايس في وسط اليمين المتشدد وضد وسط اليسار المعتدل. وبهذا التعديل يمكن قراءة التوجهات المتصلبة للخارجية الأميركية في عهد رايس. فهي أقرب من باول في التعبير عن توجهات بوش مع ميل شخصي إلى دعم التطرف الذي يقوده الثنائي.
استقالة باول من منصبه خطوة سيئة لكل المعتدلين في العالم وتحديداً في الاتحاد الأوروبي. فباول كان الشخص المناسب للتفاهم على الأمور المشتركة في لحظات التوتر مع الولايات المتحدة. رايس نارية في خطابها وتصرفاتها وتفضل استخدام المفردات القاسية وتتجاوز كثيراً الأصول الدبلوماسية وتتحدث في أحيان أخرى بصوت يأمر ولا يناقش. وهذا بالضبط ما يريده بوش منها في فترة يرقص فيها الخيلاء بسبب نجاحه في كسب ثقة الناخب الأميركي.
بوش كان يبحث عن صوته الضائع بين تيار باول وتيار الثنائي فوجده سابقاً في مستشارته، ويريد الآن أن يسمعه بعد أن انتقلت رايس إلى إدارة الخارجية. وهذا بحد ذاته بداية مؤشر قوي على توجه البيت الأبيض نحو مزيد من الانسجام في التشدد. فالتطرف الأميركي في النهاية هزم الاعتدال انتخابياً، وكانت المحصلة إدارياً نجاح الثنائي في إخراج باول لمصلحة رايس
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 803 - الثلثاء 16 نوفمبر 2004م الموافق 03 شوال 1425هـ