يقتبس المفكر الاميركي نعوم تشومسكي في خاتمة كتابه «الهيمنة أم البقاء... السعي الاميركي الى السيطرة على العالم» قول برتراند راسل: «بعد عصور أعطت خلالها الارض المفصليات ثلاثية الفصوص والفراشات غير الضارة، تواصل التطور اطرادا حتى بلغ النقطة التي انجب فيها معشر النيرونيين والجنكيزخانيين والهتلريين، وهذا في ظني كابوس عابر، فمع مرور الزمن، ستعجز الأرض مجدداً عن تحمّل الحياة، وبذا يحل السلام عليها من جديد».
حلول السلام الذي يتحدث عنه راسل هو الذي يمكن ان تنتهي إليه لوثة التوغل في همجية العدوانية والتسلح الشامل الدمار، ففي الوقت الذي يحاول تشومسكي التنبيه إليه من خطورة النزوع الاميركي الى السيطرة على العالم لا تنفك فيه مختبرات الاسلحة عن قدح زناد الذهن من أجل أجيال جديدة من الاسلحة تكون اكثر قدرة على التدمير والفتك بالبشر، وفي الوقت الذي يقابل فيه الطفل الفلسطيني وبصدره العاري آلة الموت الاسرائيلية تستمر مراكز الابحاث في العالم في البحث عن وسائل جديدة لزيادة مداخيل بعض القوى على حساب الاكثرية في العالم. وفي الوقت ذاته يزداد السلوك الاسرائيلي توغلاً في الحماقة من أجل أوهام لايمكن أن تكون في أية لحظة من اللحظات مصدراً يوحي بضرورة سلام دائم في المنطقة العربية.
في الاول من نوفمبر/تشرين الثاني العام 1962 اطلق الاتحاد السوفياتي أول مركبة فضائية نحو المريخ، وبعد هذا التاريخ بنحو أربعين عاماً وصلت مركبة فضائية أميركية الى المريخ، وانزل على سطحه اول روبوت وأرسل إلى الأرض صوراً عن المريخ وبين السعي السوفياتي والسعي الاميركي الى استكشاف الفضاء كانت ثمة معاناة حقيقية تعيشها نسبة كبيرة من سكان الارض تمثلت في الحروب الصغيرة والمجاعات والكوارث الطبيعية وانتشار الفقر وزيادة عدد الاميين في العالم، وتفشي الادمان على المخدرات في الكثير من المجتمعات، وبلوغ بعض الديكتاتوريات ابشع مراحل الديكتاتورية، والسبب دائما كان سيطرة مجموعة صغيرة على المجموع، وهيمنة دولة على باقي دول العالم، وعلى رغم النزاهة الظاهرة على الشكل الا ان المضمون في السعي الى استكشاف الفضاء كان دائما اثبات التفوق وهزيمة الخصم.
الكثير من المليارات تنفق على برامج التسلح والسيطرة على الارض والفضاء، ولم يطرح في أية لحظة من اللحظات، الذين ينفقون هذه المليارات سؤالاً عن الدافع الى هذه السيطرة وحب الهيمنة على الاخر، ولم يفكر هؤلاء للحظة واحدة في ما يمكن ان يؤدي اليه التخلي عن نهج الهيمنة والقمع والعيش بسلام في هذا العالم. فاذا كانت المحاصيل الزراعية في العالم تكفي المليارات الستة الذين يعيشون على سطح هذه الكرة المنهكة من اطنان اسلحة الدمار الشامل فلماذا إذاً السعي الى تجويع شعب من أجل إشباع بضع بطون، ولماذا يعرى عشرات ملايين من الاطفال من أجل أن تلبس بضعة اجساد أفخر الثياب؟
إن الاسئلة في هذا المجال لا تنفك تتوالد مثل بثور الجرب في الذهن، فاذا كان 110 ملايين طفل في العالم أميين فلن تستفيد الولايات المتحدة الاميركية، كونها الان، القوة الوحيدة في العالم من كل مشروعات التسلح وعسكرة الفضاء لان الجائع والامي لن يفكر بغير ملء بطنه والتعلم للقضاء على جوعه وخوفه من المستقبل. لذلك يمكن القول إن الجهل يتساوى مع المعرفة الشريرة، المعرفة الغارقة في البحث عن وسائل جديدة للقتل.
يقول تشومسكي في كتابه المذكور: «إن التاريخ ينم عن تقدير يزداد عمقاً لحقوق الانسان، وعن توسع في نطاقها أيضاً». ان تشومسكي في هذا الرأي يذهب بعيداً في التفاؤل لأن تقدير حقوق الانسان الذي يتحدث عنه ما يزال في الكثير من دول العالم بعيداً أشد البعد عن الواقع، فما تزال عشرات آلاف السجون تعج بمئات آلاف المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي. ولا تزال عشرات الآلاف من النساء تقتل يومياً في العالم لمجرد الشك في سلوكهن، وما يزال العنف يدب في أرجاء الأرض، لذلك باتت حقوق الانسان حلماً صعب التحقق لشعوب كثيرة في العالم، وباتت حرية التعبير أضيق مما كانت عليه في العقود الماضية، لا بل انها كانت أرحب بكثير مما هي عليه الآن.
لقد كانت حرية التفكير قادرة على استفزاز المخيلات الانسانية في الاكتشافات والاختراعات التي زادت من رفاهية البشرية. تقول حكمة توسيدس (460-403ق م) «للامم الكبيرة أن تفعل ما تشاء وللامم الصغيرة ان تقبل ما يتوجب عليها فعله»، هذه الحكمة يستغلها اصحاب فكر الهيمنة الى ابعد الحدود، ولذلك فان باطل الامم الكبيرة يصبح حقاً، وعلى الامم الصغيرة أن تقبله، وأن تدافع عنه، وان تتخلى عن حقها وان تقتنع بأنه باطل... باطل... باطل!
إن هذه القاعدة جعلت العالم أجمع يعيش في فوضى لم يسبق لها مثيل، وأن تتحول كل الاهتمامات الى السيطرة والاكتناز، ولو ان العالم ادرك في لحظة من اللحظات معنى المثل الشعبي القائل: «لو صبرت على القاتل لكان مات من تلقاء نفسه»، ولو ان الولايات المتحدة الاميركية ادركت للحظة من اللحظات في يوليو/ تمور من العام 1945 ان اليابان طوت باعلانها الاستسلام صفحة آخر الحروب العالمية، لكانت وفّرت على البشرية جمعاء كابوس القصف النووي لمدينتي هيروشيما وناجازاكي، وكانت عرفت ماذا يعني ان يعيش العالم بسلام.
طبعا لا مثالية في هذا العالم، ولن يقتنع الذين ابتلوا بطمع السيطرة على كل شيء في العالم ان السبب في ذلك هو مرض الخوف من الحياة، فالخائفون من الحياة هم وحدهم من يفكر بالعمل على انتاج الاسلحة الفتاكة، ولذلك يعمل هؤلاء بكل قوتهم الى إحلال السلام على الارض بعد تدمير الحياة عليها، فيكون ساعتئذ سلام الفراغ... اللاشيء
العدد 802 - الإثنين 15 نوفمبر 2004م الموافق 02 شوال 1425هـ