لا أدري أيهما أكثر دقة، السجل الأسوأ أم السجل الأسود لحرية الصحافة، أم نضع الاثنين معاً، لتكتمل الصورة، وتظهر تفاصيلها كاملة وعلى حقيقتها من دون رتوش أو تجميل وتزويق مصطنع.
وبصرف النظر عن الخطاب السياسي الرسمي، الذي يمن على شعوبنا، بأن حرية الصحافة والرأي والتعبير، كاملة مكملة، فإن الواقع يقول بغير ذلك، وخصوصاً حين تغوص في الأعماق وتفتش عن خبايا الأمور، أو حين تسافر بعيداً وتقرأ كثيراً، فتعرف أن للحقيقة عدة أوجه.
وجه يقول إن تحسناً محدوداً للغاية قد وقع في بلاد ما يعرف بدول الهامش الديمقراطي، مثل مصر والمغرب ولبنان والأردن والكويت واليمن، إذ زادت هوامش الحرية قليلاً وانعكست بصورة إيجابية على صفحات الصحف، لكنها في كل الأحوال مازالت تحت المعايير الدولية لحرية الصحافة والرأي...
ووجه آخر يقول إن أوضاع الصحافة والصحافيين في البلاد العربية قاطبة، مع بعض الاختلاف، لاتزال متدنية متدهورة، في ظل الهيمنة الحكومية الجادة على كل وسائل الإعلام والتعبير، انطلاقاً من فلسفة الحكم الفردي أو الحزبي أو البيروقراطي، الأمر الذي وضع هذه الصحافة في أدنى درجات التقويم الدولي المتفق على معاييره السياسية والمهنية.
وحتى لا تتوه الحقائق، فإننا يجب أن نقر ونعترف أننا كشعوب نصحو وننام يومياً، على تناقض فج بين ما نسمعه عن مراتب الحرية ودرجات الديمقراطية، عبر ميكروفونات أجهزة الحكم، وبين ما نعانيه من نقص في المعلومات الأساسية وتقييد للحريات العامة، وانسداد في شرايين التواصل بين الحاكم والمحكوم، ومضايقات مشددة وعقوبات مغلظة تحد من حرية الكتاب والصحافيين وكل المشتغلين بالعمل العام، تفرضها قوانين شديدة التخلف، ابتداء من قوانين المطبوعات، حتى قوانين الطوارئ، وبينهما بالقطع قوانين العقوبات والقوانين الجنائية!
والنتيجة الواضحة، أن صحافتنا مقيدة، وصحافيينا عجزة بفعل فاعل، فالخطوط الحمراء والصفراء والسوداء تنسج بيوتاً للعنكبوت، يصعب على هواء الحرية اختراقها، وقيود التحكم في إصدار الصحف، كما في الأحزاب والجمعيات، وعقوبات حبس الصحافيين في قضايا الرأي والنشر، لاتزال سيدة الموقف، ولا تكاد دولة عربية، تخلو من هذه القيود والعقوبات والعقبات الكؤود، وباستثناء الأردن فإن حبس الصحافيين أصبح سلوكاً عادياً تمارسه البيروقراطية الحاكمة المتحكمة كما تمارس طقوس المأكل والمشرب المليكانيكية!
وقد كان المتوقع أن تكون دولة مركزية محورية بحجم مصر، ذات التقاليد البرلمانية والدستورية، بتجاربها الديمقراطية منذ منتصف القرن التاسع عشر حين انتعشت فيها دعوات الإصلاح المبكرة، هي السباقة في «ارتكاب فعل الإصلاح الديمقراطي» قبل غيرها، وخصوصاً فيما يتعلق بحرية الصحافة والتعبير وبضمانات العمل الصحافي والفكر الإبداعي، إلا أن تلكؤ الآلة البيروقراطية، بما تضمه من مستشاري السوء وترزية القوانين، قد حالت دون ذلك حتى اللحظة، وهل هناك دليل أقوى من التسويف والتهرب الحكومي من تحويل قرار الرئيس مبارك بإلغاء عقوبة حبس الصحافيين هذه، إلى تعديلات تشريعية مستحقة ليصبح الإلغاء قانونياً!
وفي ظل هذا التهرب والتشكيك والمماطلة، هناك عشرات من القضايا منظورة أمام المحاكم، بل هناك أحكام صدرت ضد صحافيين فعلاً، الأمر الذي أشاع ارتباكاً في كل الصفوف، فلا النهار نهار ولا الليل الليل، وحين تسود البلبلة ويقع الارتباك، تنشط جحافل الظلام لخنق بشائر الإصلاح ونسائم الحرية.
وانظر بتأمل في الحادثة الفجة التي استهدفت صحافياً مرموقاً، هو رئيس تحرير صحيفة «العربي» الناطقة باسم الحزب الناصري الشرعي عبدالحليم قنديل، حين تم اختطافه قبل أيام من أمام منزله، وضربه وإيذائه وإذلاله بعنف، ثم رميه عارياً في صحراء شرق القاهرة... فهذه ليست جريمة جنائية بحثاً عن فدية أو سرقة لمال أو حتى أخذاً بثأر عائلي، بل هي بلطجة سياسية ظاهرة، عقاباً لقول قاله أو رأي كتبه علناً في صحيفة شرعية معترف بها رسمياً.
ولم تكن هذه حال فريدة واستثنائية في مصر المحروسة، لكنها كما نتذكر هي الحال الخامسة خلال السنوات القليلة الأخيرة، فقد جرت سوابق لها مع الزملاء، حمال بدوي حين كان رئيساً لتحرير صحيفة «الوفد»، ومجدي أحمد حسين حين كان رئيساً لتحرير صحيفة «الشعب» المعطلة عن الصدور، وعضو البرلمان الكاتب حمدين صباحي، إذ كان نصيبهم هو الضرب المبرح والإيذاء النفسي فوق الجسدي، على أيدي بلطجية مجهولين فروا بعد الجريمة هاربين لتقيّد في كل مرة ضد مجهول!
أما الحال الأغرب، فهي حال اختطاف واختفاء مساعد رئيس تحرير «الأهرام» الزميل رضا هلال من دون أن يظهر له أثر حتى الآن، على رغم مرور نحو عام ونصف العام، وكأنما انشقت الأرض فابتلعته، لا يدري أحد من أهله أو زملائه هل اختفى في الداخل أم اختطف للخارج، هل قتل أم مازال حياً... ولماذا كل ما جرى؟... لا أحد يجيب، إلا صوت التخويف والترهيب لباقي العاملين في هذه المهنة، التي صارت مهنة الموت كمداً، أو الموت جسداً، ولكل حق الاختيار!
وإذا كانت القوانين المتعسفة والعقوبات المغلظة سالبة الحرية، بما فيها عقوبات حبس الصحافيين والكتاب في قضايا الرأي والتعبير، وصولاً إلى عقوبات التكفير - على غرار ما حدث لنصر أبوزيد بالأمس، وما يحدث اليوم مع الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة - هي عقوبات شائعة، من مشرق الوطن العربي إلى مغربه، فإن عقوبات الخطف والضرب، وحتى القتل دخلت حديثاً على خط الترويع، كما جرى في اليمن ومصر، وإن ظل صحافيوها أحسن حظاً، مع كل ذلك، من الصحافيين في العراق الآن الذين يقتلون بالجملة - قتل 55 صحافياً عربياً وأجنبياً منذ الغزو الأميركي للعراق قبل عام ونصف حتى الآن - وكذلك من الصحافيين في الجزائر، الذين قتل 64 منهم خلال فترة اشتداد الصدام الدامي بين الدولة والجماعات الإسلامية المتطرفة.
في ظل هذ القوانين المتشددة والعقوبات المغلظة، التي يجري تطبيق بعضها وفق تشريعات جائرة، ويجري بعضها الآخر خارج نطاق القانون والتشريع أصلاً، كما في حالات القتل والخطف والاعتداء الجسدي والإيذاء النفسي، يصبح طبيعياً أن تختنق الحريات العامة، وخصوصاً حرية الصحافة والرأي والتعبير، ويصبح منطقياً أن تصنف صحافتنا كلها في البلاد العربية جميعاً، ضمن السجل الأسوأ أو الأسود، في التقارير الدولية المحترمة...
قبل أيام قليلة أصدرت المنظمة الدولية المعروفة «مراسلون بلا حدود» من مقرها في باريس سجلاً أو دليلاً عن أوضاع حرية الصحافة والصحافيين في 167 دولة في العالم، يعتمد معايير مهنية ومقاييس دولية متعارف عليها، أهمها استقلالية الصحف، وسلامة الصحافيين، وحرية الرأي والتعبير، وحرية تدفق المعلومات، ونوعية الرقابة، وفداحة العقوبات... إلخ.
يقول التقرير، الذي حصلنا على نسخة مبكرة منه خلال رحلة السفر الحالية، إن أفضل دولة في العالم فيما يتعلق بحرية الصحافة، هي الدنمارك وتحتل المرتبة الأولى، وأسوأ دولة هي كوريا الشمالية وتحتل المرتبة الأخيرة رقم 167، والدول العشر الأفضل هي بالترتيب، الدنمارك، وفنلندا، وايسلندا، وإيرلندا، وهولندا، والنرويج، وسلوفاكيا، وسويسرا، ونيوزيلندا، ولاتفيا من واحد إلى عشرة...
أما الدول الأسوأ العشرة الأخيرة في الترتيب فهي، كوريا الشمالية برقم 167، وكوبا 166، وبورما 165، وتركمانستان 164، وأريتريا 163، والصين 162، وفيتنام 161، ونيبال 160، والسعودية 159، وإيران 158.
ونلاحظ هنا ما يأتي:
(1) إن أهم الدول الغربية الديمقراطية لا تحتل المقدمة، إذ تأتي ألمانيا في المرتبة الثانية عشرة، وفرنسا في العشرين، والولايات المتحدة الأميركية في الثالثة والعشرين، وبريطانيا في الثلاثين، وإيطاليا في التاسعة والثلاثين، تليها إسبانيا في المرتبة الأربعين.
(2) إن جميع الدول العربية، لا تظهر في ترتيب المئة دولة الأفضل، باستثناء لبنان الذي جاء في المرتبة 87، ثم الكويت في 103، وقطر 105، والأردن 121، والمغرب 126، وفلسطين تحت السلطة الوطنية 127، والجزائر 128، ومصر 129، والصومال 130، والسودان 132، واليمن 135، والإمارات 137، وموريتانيا 138، والبحرين 143، وجيبوتي 145، والعراق 148، وتونس 152، وليبيا 154، وسورية 155! ولاحظوا دائماً أن ترتيب الدليل والسجل يضم 167 دولة.
(3) يشير التقرير إلى أن هناك منطقتين في العالم تعاني فيهما الصحافة وحرية الرأي أشد المعاناة، هما على التوالي شرق آسيا، والشرق الأوسط، بينما نجحت دول إفريقية فقيرة عدة في كسر النظم الدكتاتورية، والتحول برشاقة نحو الديمقراطية، تماماً كما فعلت دول أوروبا الشرقية، التي كانت ضمن المعسكر الشيوعي المنهار، في حين لم تحقق الدول العربية شيئاً من هذا التحول!
(4) تعاني الغالبية العظمى من البلاد العربية، من النظم الفردية، التي لاتزال تتحكم بقوة في الصحافة وكل وسائل الإعلام الأخرى، وتعرقل استقلاليتها وتفرض قيوداً مشددة على حريتها وتتعرض بالعقوبات المشددة للصحافيين، وحدد التقرير الدول الأشد في هذا المجال، مثل سورية وليبيا وتونس، وميّز بينها وبين حالتي المغرب والجزائر التي تعاني الصحافة المستقلة فيهما من المضايقات والمحاكمات.
(5) من السهل على كثيرين عندنا أن يستنكروا هذا التقييم - السجل الأسود - وأن يدّعوا كالعادة بأن الصحافة حرة تماماً، وأن مُعدي هذا التقييم من الأعداء الألداء الذين يحترفون تشويه الصورة وتزييف الواقع...
لكن الواقع الذي نعيشه ونعايشه يقول للأسف إن السجل الأسوأ هو من نصيبنا وقدرنا، وان الإنكار والاستنكار لا يغيّره إلى الأفضل، لكن الذي يغيّره حقاً هو أن نعترف بقصورنا وأخطائنا، ثم نبدأ الإصلاح الحقيقي فوراً قبل فوات الأوان، بدلاً من وأد الحرية في سراديب الظلم والظلام، والاكتفاء بالحديث عن الحرية في سرادقات المناسبات، بينما الأيدي الخفية تضرب وتعصف في الظلام ثم تختفي محتمية بأمن لا نعرف سره أو مصدره!
وقانا الله وإياكم شر الأذية...
خير الكلام... قالوا:
مقتل الرجل بين فكيه
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 802 - الإثنين 15 نوفمبر 2004م الموافق 02 شوال 1425هـ