العدد 802 - الإثنين 15 نوفمبر 2004م الموافق 02 شوال 1425هـ

الطفل العربي والمسلم ومأزق مستقبل مظلم (2 - 2)

لم تعد تربية الطفل تـقتصر على الأسرة والمؤسسة التعليمية فقط ولكن التكنولوجيا الحديثة وما أنتجته من أجهزة باهرة أصبح نصيبها في تربية الطفل هو النصيب الأوفر، وتـقول: ليليان لورسا وهي عالمة نفس في المعهد الوطني الأميركي اننا اذا أردنا أن نفهم طفل اليوم فعلينا أن نعرف أن الطفل قد أصبح مشاهد تـلفزيون قبل أن يكون تـلميذا وخطورة التـلفزيون أنه لا يؤثر فقط في التحصيل الدراسي اذ ثبت أن الذين يقضون أكثر من ساعة ونصف الساعة يوميا أمام الشاشة الصغيرة يقـل مستواهم في القراءة والكتابة والتـعامل مع الرياضيات ويصابون بنوع من التـشتـت وعدم التركيز في الفصل ولكن التـلفزيون يؤثر أيضا في شخصية الطفل ففي الوقت الذي تتكون فيه شخصية هذا الطفل يصبح مشبعا بالأشكال التي يراها على الشاشة وهذا التـشبع هو بداية التـقليد الذي يحدث لا شعوريا وبذلك يفـقد الطفل ادراكه الواعي لكل ما يقوم به.

ان التـلفزيون يسرق أيضا طفولة الأطفال ويدخلهم مبكرا عالم الكبار بكل ما فيه من مشكلات وتـناقضات بل ويدخلهم عالما من العنف لا يفهمون مبررا له وهذا واضح في رسومات الأطفال التي كانت بريئة مليئة بالأحلام ثم تحولت بعد رؤيتهم للتـلفزيون الى اشكال قاسية مليئة بالوحوش وبالأشخاص الآليـين، وتـقول الإحصاءات ان الطفل الذي يشاهد التـلفزيون لمدة ثلاث ساعات يوميا يكون قد شاهد قبل سن الثانية عشرة حوالي 800 جريمة قـتـل وأكثر من 100 ألف مشهد من مشاهد العنف.

ان الواقع العربي لا يجعل الطفل يأخذ نصيبه العادل من خبرات الطفولة اذ أننا أمام واقع لا يضيق الخناق على الطفل المبدع فقط ولكنه لا يتيح للأطفال العاديـين أن يأخذوا نصيبهم العادل من خبرات الطفولة فالبيئة العربية الضاغطة تحرمهم من الكثير من المثـيرات العصبية والحسية التي تـنمي من درجة ادراكهم للوجود من حولهم والمؤسسة التـعليمية تـتحمل عبئا كبيرا في هذه المسئولية ولأنها واحد من أكثر العوامل أهمية في التطور فعليها أن تـتخلى عن دورها التـلقيـني وأن تنصرف لتربية القدرات المبدعة. لقد انتهت نظرية الطفل المبدع بالفطرة ذلك الطفل الذي يولد مزودا بالموهبة فقد تبين أن الا بداع يمكن تكوينه وتطويره وتطوير أي قدرات خاصة مرهون بالجهد الذي يبذل في هذا الاتجاه ولا أعني بالابداع هنا ابداع الناضجين فابداع الطفل يخـتـلف بالتأكيد فالطفل في هذه المرحلة لا يمكن أن يأتي بجديد ولكن ما سيأتي به سيكون جديدا بالنسبة إليه وهذا الأمر في حد ذاته مؤشر لابداع لاحق، بل ان ظهور الاستـقلالية هو بحد ذاته عمل ابداعي وعلى المدرسة ان تـغذي في أطفالها حب الاطلاع والحيوية والتصور الفني والاتجاه نحو النشاط والبحث فمثـل هذه الخصائص هي المحركات الأولى لنمو الابداع. ولعل أكبر ما يواجه الطالب العربي في المدرسة بل في الجامعة كذلك هو غياب أسلوب البحث والتـقصي أي غياب البحث عن الحقيقة وهو يمثـل هنا افتـقارا شبه كامل في مؤسساتنا التـعليمية لأشكال العمل وطرق التفكير وحل المشكلات في مناهج كل المراحل التـعليمية، والمشكلة هنا تكمن في نوع ومساحة الحرية المكفولة للطفل والشاب.

وقد لاحظ العلماء الذين اهتموا بدراسة المبدعين والعباقرة أن النسبة الغالبة منهم (حوالي ثمانين في المئة) جاءوا من أسر متوسطة والطبقة الوسطى كانت دوما هي صمام الأمان لأي مجتمع ويقاس تـقدم المجتمع بقدر ما تـقدمه هذه الطبقة من كوادر متعلمة ومن مواهب ابداعية ومن قادة ومن أفكار جديدة، وقد دأب المفكرون الماركسيون على القول دوما انها طبقة قـلقة تتطلع دوما الى الطبقة الأرستـقراطية التي تعلوها وتخشى السقوط في هوة الطبقة الكادحة التي توجد في أسفلها هذا التوق والقلق المتلازمان هما اللذان أوجدا في هذه الطبقة كل هذا النشاط الفكري والابداعي، الطبقة الوسطى العربية يحيق بها الخطر منذ أعوام عدة وهي تـنزلق ببطء ولكن باستمرار الى هوة الفقر والاملاق وبدلا من تكون صمام أمان في المجتمع تتحول لتصبح ضحية تهدد المجتمع بالخطر على أمنه وتـقدمه فهي لا تـفقد فقط خصائصها المميزة ولكنها تـفقد أيضا القيم التي كانت تـلقنها لأولادها حول قيمة العمل وأهمية التعلم والطموح الى مكانة أفضل وكلها أمور تخلق الدافعية لدى أفرادها كما أن القيود التي تكبل الحريات الفردية مازالت قائمة على رأس الكثير من أنظمتـنا العربية تكبل حركة هذه الطبقة ولا تحافظ على حقوق أفرادها وهو أمر يهددها بالشلل والتآكل وبالتالي فان نتاج هذه الطبقة من كوادر متعلمة وقادة ومفكرين وعلماء مهدد هو أيضا بالتآكل.

وتزداد مشكلة التـلفزيون خطورة في العالم العربي فبعد انفـتاح الفضاء الخارجي لم يعد من الممكن حجب كل ما تبثـه المحطات الفضائية وقد أصبحت الدولة عاجزة عن فرض رقابتها التـقليدية تاركة هذه المهمة للأسرة، وهي مهمة غاية في الصعوبة فالفضائيات تحمل لنا حلما ملونا لعالم متـقدم شديد الابهار غاية في الحرية والانفـتاح وهو لا يصدم فقط مشاعرنا التـقليدية المحافظة ولكنه يصيـبـنا بالعجز عن مقاومة كل هذا السيل من القيم والعادات المختلفة، وقد أصبحت الأسرة العربية تـتحمل المسئولية وحدها، فعليها أن تضع سياسة حازمة في مواجهة هذا الجهاز وأن تحسن من استخدامه فالتـلفزيون شئنا أم أبينا هو جزء من حياة الأطفال، ومهمة الأسرة أن تجعل من الساعات التي يقضيها أمامه مفيدة على نحو ما وتدل بعض الدراسات على أن الطفل يمكن أن يكتسب الكثير من المهارات اللغوية وفي بعض الأسر العربية التي لا تـقدر على شراء الكتاب أو حتى الصحيفة يكون التـلفزيون هو المصدر الوحيد للثـقافة، ويؤكد علماء النفس أن علينا اغلاق التـلفزيون عن أية مشاهد عنيفة لأنها تصاحب الطفل أثـناء نومه وهو يخشى أن يقول ذلك حتى لا يحرم من مشاهدته كما أن المدرسة أيضا مسئولة عن افهام الطفل كيفية التـفريق بين الصورة التي يراها والواقع الذي يعيشه.

كانت هذه اطلالة سريعة على واقع الطفل العربي ومناشدة حارة لكل الأجهزة المسئولة من أجل انقاذ أطفال المستـقبل العربي لا من أيدي الجنود الاسرائيليـين والاميركيين في بلاد الرافدين والدولة المسلمة افغانستان فقط ولكن ومن وطأة الأجهزة المتخلفة ومن المهرجانات الزائفة التي تـتصدرها المدارس، من دون أن تـقدم شيئا حقيقيا، اننا في حاجة الى عمل اصلاحي شامل يتضافر فيه الخبراء والتربويون ورجال الاعلام لعلنا ننقد شيئا من ابداع العقل العربي وهو مازال في المهد.

اننا كعرب نقف اليوم أمام مأزق لا وقت للانتظار فيه أكثر مما انـتظرنا وعلينا أن نحزم أمرنا ونؤمن بثـقة بأن مستـقبلنا كأمة وكأوطان مرتبط عضويا بمدى ما ننجح فيه من وضع أطفالنا على الطريق القويم، فنحشد كل امكاناتـنا ونطوع كل برامجنا التـنموية للأطفال تعليما حديثا وصيانة حقوق وتوفير العناية الصحية العالية وحمايتهم بالقوانين وحسن تطبـيقها من كل اعتداء على حقهم في كل ذلك وأن نؤمن بأن حقوق أطفالنا قبل حقوقنا كآباء ومسئولين وأننا نزرع في أبنائنا النهضة المنشودة لأمتـنا





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً