كنت وإلى فترة ليست ببعيدة... وحين أشتاق إلى الماضي القريب... أتجه إلى سوق المنامة... وعلى وجه الخصوص ذاك الشارع الذي ولحسن الحظ مازال يحتفظ باسمه على ما أعتقد وهو شارع التجار... أتمشى... أتطلع... أسلم على أناس لا تحمل قلوبهم لي إلا أمنيات الخير... أرى فيهم الحياة والنشاط... والبيع والشراء... والمساومة... ذاك يشتري الحلوى... وآخر تشوقت لزيارة هذه البقعة... بالأمس القريب... عجزت من كثر الدوران لأوقف سيارتي المتواضعة... فالمنطقة مليئة بالسيارات السعودية والكويتية والقطرية وغيرها من الماركات الخليجية وكأن المكان به مباريات كأس دول الخليج؟! ولم أحصل على موقف إلا في نهاية السوق عند بوابة كبيرة على شكل قوس يدخلها أناس ذوو أشكال غير طبيعية... أرى فيهم الشوق واللهفة... والهندام الكشخة النظيف وهم ذوو (غتر) منسوفة بشكل متعوب عليه... ومن الباب نفسه يخرج أناس أشكالهم تعبانة... وهندامهم (معفوس)... ومزاجهم لا بأس به. ولاحظت عليهم ومن كثر التعب أنهم لا يقوون حتى على المشي فهم يترنحون يميناً وشمالاً... وغترهم على أكتافهم... وفي مشواري المتسائل... أرى أكثر الناس تمشي وتمشي وتمشي وهي فرحة... وحركة دؤوبة لسيارات النقل المشترك فتطمنت بأن شارع التجار مازال يحمل الحيوية والنشاط نفسيهما ومازال الناس يقصدونه ويتبضعون منه مع كثرة السوبرماركتات والمجمعات المكيفة، ولكنني لمحت بناية كبيرة يحرسها رجل أمن... وكمّاً هائلاً من الأعمدة الحديدية التي تحجز المواقف... وكمية من الصور لمطربين مخلوطة جنسياتهم ملصقة على بوابة غامقة اللون وأكبر حجماً من بوابة الفندق نفسه وأسهل في الدخول كذلك... والناس الذين يدخلون ويخرجون من هذا الباب الغامق يحملون مواصفات الناس الذين يدخلون ويخرجون من ذاك الباب القوسي الشكل نفسها؟! ها... إنه فندق في عرض السوق... جميل... اتجهت إلى مقصدي في السوق... فرأيت غالبيتهم وقد أغلقوا أبوابهم معلنين نهاية يوم بل أسبوع في شارع التجار وكانت الساعة الثامنة مساء!... عجبي... ولكنني لم أتنازل فبعد هذه التضحيات التي قدمتها للقدوم الى هذه البقعة أتنازل وبهذه السهولة عنها؟!... فضللت أمشي وأتلفت... علّني أرى الوجوه التي كنت أراها في السابق... فلم أجد منها أحدًا... فسألت أحداً أراه متمرساً في السوق... ما الخطب يا هذا؟.. يجيبني: شارع التجار الذي تقصده يبدأ من صباح السبت... وينتهي بمثل هذا الوقت من يوم الاربعاء... ليبدأ الشارع هذا بنشاط سياحي زخم!! ورواد يطلبون الحلوى البشرية لا الحلوى التي تشتريها أنت من عند الحلواجي!! ويتلذذون بشرب شيء غير الشاي الذي تشربه في المقهى المجاور!!... بالمختصر المفيد فهذا الشارع يصبح شارع (.....)!! فهل فهمت؟... قلت له: فهمت ولكن هذا الشارع بالذات له ذكريات وتاريخ جميل جداً... كان أبي يصطحبني معه الى الحلواجي لأخذ الحلوى التي تحبها والدتي أم جاسم، والتي مازالت تفضلها على غيرها... وكان يشتري لنا المكسرات الطازجة من الاكراشية المنتشرين ببضائعهم الملونة... وكان المكان يضج بسيارات النقل المشترك لنقل حاجيات الناس وليس لنقل أمتعة سياح الحلوى البشرية... وكان وكان وكان... أخ عليه زمن... الذي جعل الفنادق، بل أقصد المراقص، تغزو حتى أبسط الأماكن الجميلة... وتحولها من أماكن ساكنة هادئة تنتظر أذان الصباح لتبدأ بيوم عمل ممتع للشاري والبائع... لتجعلها منطقة أكثر ازدحاماً وضجة وفوضى من الصباح، وهم غير مبالين حتى بصوت المآذن التي تصدح في وقت نهاية برنامجهم الساهر...
وما لبثت وبعد محادثة هذا الأخ حتى رجعت إلى سيارتي البعيدة بعض الشيء... لأرجع وقبل أن يراني أحد ويظنني لست من رواد شارع التجار الصباحيين والمشتاقين إليه والمتأسفين عليه... بل يظنني من رواد شارع (.....) الذي يبدأ دوامه في هذا الوقت وعلى مدار ليلتين بشكل مكثف...
وكم كنت حزيناً وكئيباً على قرار اتخذته لزيارة منطقة جميلة في ذاكرتي... ومنها لن أزور منطقة لها ذكريات طيبة كهذه مرة أخرى حتى لا أصفع على خد واحد مرتين
إقرأ أيضا لـ "حمد الغائب"العدد 801 - الأحد 14 نوفمبر 2004م الموافق 01 شوال 1425هـ