ربما كان من بين اهم المبادرات الاهلية التي شهدتها سورية في العام الحالي، اعلان ولادة «المبادرة الوطنية للحد من الفساد» في بيانها الاول الذي نشرته نشرة كلنا شركاء الالكترونية السورية أخيراً. واهمية هذا الحدث، لا تكمن فقط في انه يعزز الحملة التي تابعها نشطاء المجتمع السوري خلال الاعوام الاخيرة من اجل اطلاق مبادرات هدفها تعزيز المواطنة، واعادة الروح للمجتمع، وتصويب العلاقة المختلة ما بين المجتمع والدولة في ضوء استيلاء الحكومات السورية المتواصل لعقود مضت على الدولة وتأميمها لصالح السلطة، ثم استخدامها غطاءً لاخضاع المجتمع والاستيلاء عليه عبر القوة الغاشمة وحملات الديماغوجيا.
كما ان بين دلالات اهمية اعلان «المبادرة الوطنية للحد من الفساد»، انها محاولة جديدة لاحياء الصوت السوري في مواجهة الفساد، وهو صوت بدا واضحاً في جملة الوثائق والادبيات العامة التي اصدرها مثقفون ونشطاء سوريون، كما في بيان الـ 99 وشقيقه بيان الـ 1000، وما تلاهما من وثائق طالبت بالاصلاح العام في سورية والذي هو نقيض الفساد الحاصل في تجلياته المختلفة.
واستعادة الصوت العام للمثقفين ونشطاء المجتمع من اجل الإصلاح ومحاربة الفساد، يقود الى استذكار بعض الاسماء التي وقفت بقوة من اجل الاصلاح ومحاربة الفساد ونتائجه على نحو ما كان موقف عالم الاقتصاد السوري عارف دليلة وكل من عضوي مجلس الشعب رياض سيف ومأمون الحمصي والذين اشارا بوضوح الى ظاهرة الفساد في مواقعها المختلفة، كما دللوا بالارقام والمعطيات الدقيقة تفاصيل تلك الظاهرة على نحو ما توقف كل من سيف والحمصي في موضوع الخليوي السوري الذي اتخذ طابعا احتكاريا واذعانياً، جرى فرضه على المجتمع والدولة دون مجرد نقاش جدي.
ولاشك ان توجه سوريين جدد الى محاربة الفساد على نحو ما تمثله «المبادرة الوطنية...»، انما يعني ان احساس المجمع بالظاهرة، ليس احساساً فردياً، أو احساساً من جانب جماعة معينة، ولاهو احساس موسمي كان مرهوناً بفترة فوران الحراك الاجتماعي والسياسي في البلاد، بل احساس طبيعي وعميق لا يمنع من الانخراط فيه الاعتقال الذي تم قبل أكثر من ثلاث سنوات لمن درج تعريفهم بـ «معتقلي ربيع دمشق» العشرة وبينهم دليلة وسيف والحمصي والذين نالوا أحكاماً سياسية شديدة القسوة في أقل مايقال فيها نتيجة مطالبهم الاصلاحية ومواجهة الفساد.
وعلى رغم كل ما سبق من دلالات أهمية المبادرة، فان في مضمونها ما هو أكثر اهمية في دلالاته، ذلك ان المبادرة حددت في بيانها الاول، انواع الفساد والقائمين عليه والمنخرطين في انواعه التي تنخر القطاع الحكومي والاهلي، كما تناولت أخطاره على الدولة والمجتمع باعتبارها اخطاراً تؤدي الى «الانحلال والتفكك»، وانه «يعرقل عملية التنمية الاجتماعية الاقتصادية».
وذهبت المبادرة الى القول بمواجهته في مسارين «ثورة تربوية ثقافية على المدى الطويل تستأصل الفساد من جذوره عبر استراتيجية واضحة»، و«حل سريع عبر ثورة قانونية تدعمها إرادة سياسية قوية».
ويزيد من اهمية المبادرة، انها تلجأ الى المجتمع ليأخذ دوره في «الحد من الفساد» دون ان تنسى دور الدولة، وترى ان دور الدولة، وهو دور عاجل، يقوم به القضاء ومؤسسة الرئاسة، فيما يتجسد دور المجتمع في «استئصال الفساد من العقول والنفوس، وتحطيم سمعة الفساد والمفسدين لدى الرأي العام» باعتباره معادياً لكل القيم والافكار وللقوانين والدستور السوري ولحقوق الانسان، وهو نشاط يمكن القيام به عبر ندوات تناقش مسائل الرشوة والغش والتقاعس عن العمل، تنظمها وسائل الإعلام، اضافة الى محاضرات مماثلة في المؤسسات العامة والجامعات والمدارس والمراكز الثقافية.
باختصار، تبين «المبادرة الوطنية للحد من الفساد»، ان لديها فهماً لظاهرة الفساد واخطاره، ولديها خطة قريبة وبعيدة لعملها، كما ان لديها ادواتها، وكلها امور مهمة في الحرب التي يصر السوريون على متابعتها ضد الفساد. لكن الأهم في هذا ان لا تترك المبادرة وحيدة من دون ان يتقدم نشطاء المجتمع والمتضررون من الفساد لدعمها، وان يترك المستفيدون من الفساد واركانه للقضاء على المبادرة على غرار ما جرى القيام به خلال «ربيع دمشق»
العدد 801 - الأحد 14 نوفمبر 2004م الموافق 01 شوال 1425هـ