ها هو شهر رمضان حزم أمتعته ورحل عنا في إجازته السنوية على أمل اللقاء من جديد في العام المقبل... هذا الشهر الذي استقبلنا خبر قدومه بفرحة واستعددنا لحفل استقباله أيما استعداد وكل بحسب طريقته وعواطفه وطباعه وإن كان المتفق عليه واحداً هو نيل رضا الخالق عز وجل ومحو قليل من ذنوبنا التي دنسنا بها أجسادنا وعقولنا وأرواحنا في غيره من أشهر السنة... وإزاء ذلك كان هذا الشهر الفضيل شاهداً وحاكماً علينا في الوقت نفسه، فهل يا ترى نلنا مبتغانا أم ضاعفنا ذنوبنا بآثام أكبر؟!
ما إن يهل هذا الشهر المبارك حتى ترتسم معالم للوحدة والفرقة في آن واحد!... الوحدة على أن هذا الشهر هو دين في رقاب كل من شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فيه يمتنعون عن الطعام والشراب ومن المفترض عن كثير من الذنوب تطهيراً للنفس من دنس الدنيا وأوساخها ومغرياتها... فالكل متفق على الأساس أو القاعدة وهو صوم هذا الشهر كونه عبادة من العبادات التي فرضها علينا ديننا الحنيف، الذي (ديننا) بدوره وضع لنا الأساسيات التي نبني عليها صومنا ووضحها لنا بشكل جلي بحيث لا يختلف عليها اثنان، وأظنها حكمة من البارئ تعالى حتى لا تسود الفرقة أوساط المجتمع... ولكنا في الجانب الآخر من المعادلة بين ما بينه لنا الدين وبين ما وضعناه نحن بعقولنا وصنعناه بأيدينا... نجد أنفسنا قد بَعُدْنا عن مبدأ الوحدة الذي أقيم عليه الإسلام عموماً ودعا إليه الشهر المبارك واعتبره مبدأً من مبادئه وطريقاً للوصول إلى رضا الله سبحانه وتعالى وذلك باختلافنا ومنذ البداية على (هلال) الشهر الكريم!... منذ البداية تفرقنا أشتاتا وأبينا إلا أن ننقسم إلى نصفين كل منهما معتز برأيه واضعه تاجاً على رؤوس الجميع ومن يتخلف عن ركبه فكأنه ارتكب منكراً يستحق عليه العقاب الذي غالباً ما يبدأ بمجرد التشكيك في صحة صيام إحدى الفئتين والذي قد ينسحب بدوره إلى التشكيك في صحة دين إحداها أيضاً وعبوديتها لله الواحد الأحد!
كان ذلك أول الاختلاف، وطبعاً الاختلاف في البداية لاشك أنه سيسحب وراءه الاختلاف في أمور عدة إلى أن نصل إلى نهاية الشهر كون كل شيء مرتبطا بـ (الهلال) الذي يبدو أننا جزأناه وتقاسمناه بين بعضنا بعضاً فما عاد واحداً!... انقسمنا منذ البداية إلى فئتين وجاء منتصف الشهر ونحن على الحال نفسها، فئة تحتفل في يوم والفئة الأخرى في اليوم الذي يليه... وأساس الحسبة ضائع وحسم الاختلاف يبدو أنه من المستحيلات السبعة... فهذا هو حالنا من الأزل نتفق ظاهرياً ونختلف باطنياً وإن كانت المعادلة هنا مقلوبة إذ اتفقنا باطنياً على الأساس كونه لا جدال فيه وإلا كفرنا، وأبينا إلا الاختلاف ظاهرياً حتى نجاري دنيا الغالب فيها من قال «ها أنذا» فيتبعه الجميع سمعاً وطواعية!
واليوم جاء العيد، عفواً أقصد أمس، لا، ربما في الغد... اعذرونا فقد فقدنا التركيز وظللنا طريقنا وأخذت الحيرة مأخذها من عقولنا حتى كدنا نفقدها أساساً... ففي العيد ربما لن ننقسم إلى فئتين فقط، إذ قد نكون ثلاثاً وربما أربعاً والله العالم!... وأعتقد أن القرار النهائي للغالبية منا إن لم يكن جميعنا في اختيار الفئة التي سينتمي إليها جاء عشوائياً من دون إعمال للعقل «وين ما تحط رجلك»!... فلان قال كذا فأنا أتبعه وأخلص نفسي فاللوم والحساب في النهاية سيقع عليه وحده!
جل ما نخشاه أن نصل إلى اليوم الذي سيكون فيه لكل واحد منا (هلال) خاص به وحده يصوم ويفطر ويحتفل ويحزن ويحج وفقاً لرؤيته الخاصة! وليس علينا لوم في ذلك، فإن لم يتفق من عمدناهم على ديننا ومن بيدهم قرار وحدتنا وفرقتنا كونهم الماسكين بزمام الأمور في مثل هذه الحالات فكيف سنتفق نحن؟... ومن هنا إلى أن يأتي ذلك اليوم (أبعده الله عنا) سنحتفل مرتين أو ثلاث مرات والهلال واحد، وما علينا إلا أن ندعو الله أن ينجينا ممن جعل لكل بلد هلالاً... وللرفاع هلالاً... ولجدحفص هلالاً... ولسترة هلالاً آخر! وتبقى الكلمة المشتركة بيننا في كل الأيام الهلالية تلك «كل عام وأنتم بخير»
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 800 - السبت 13 نوفمبر 2004م الموافق 30 رمضان 1425هـ