سافرت إلى أول زيارة قام بها الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى مقر البرلمان الأوروبي بمدينة ستراسبورغ لكي أشهد وقائعها وخصوصاً أنها وصفت بأنها زيارة تاريخية. قبل وصول عرفات أعلنت مجموعة من أعضاء البرلمان التابعين لكتل محافظة أنهم سيقاطعون زيارة عرفات الذي جاء إلى ستراسبورغ حينها بدعوة من الكتلة الاشتراكية في البرلمان الأوروبي.
وكانت دهشة الجميع كبيرة جداً حين تسابق أعضاء الكتل المحافظة إلى القاعة التي أعدت ليلقي فيها عرفات كلمة. إن دل هذا على شيء فإنه يدل على أن الرئيس الراحل، كان شخصية تاريخية، لا يستطيع أن يتجاهلها أحد. السنوات التي تلت أكدت ذلك. بعد أن أجبرته «إسرائيل» على الخروج مع مقاتليه من لبنان في العام 1982 وكان أرييل شارون وزيرا للدفاع، كتب كثيرون نهاية عرفات. ثم ظهر من جديد، من تونس، واحتل مركزا متقدما على خشبة المسرح الدولي.
دأب المعلقون من أنحاء العالم على وصفه بالرجل الخارق الذي يملك أكثر من سبعة أرواح وأنه يملك قدرة فائقة على البقاء. هكذا فعل في لبنان أكثر من مرة، وهكذا فعل في تونس حين ضربت «إسرائيل» مقره وكان بيريز يشغل منصب رئيس الوزراء، وهكذا فعل وصمد في مقره بـ (المقاطعة) إلى أن أتاه الأجل المحتوم على كل البشر. هكذا حصلنا على الدليل أن هذا الرجل إنسانا من لحم ودم، وأن الخارق هو الله وحده.
دون سواه من أبناء شعب فلسطين، لم يعبر أحد عن معاناة شعبه، مثلما فعل عرفات. كان يتكلم وهو صامت. وكان يبكي وهو يضحك. كل حركة كانت تصدر عنه كانت ترمز إلى شيء. كان الضعيف القوي وأحيانا العكس. في حياته كان على الدوام يخطف الأضواء ويحتفظ بها لنفسه ولفلسطين. في مماته أيضا. فمقره الذي كان المكان الذي فرضته عليه «إسرائيل» قبل ثلاث سنوات، سيتحول إلى مزار نأمل أن يكون مؤقتاً. فالشعب الفلسطيني عقد العزم على أن يحقق رغبة قائده بأن يدفن في القدس.
لم يحصل وان التقى العالم العربي والعالم الإسلامي، وأوروبا والولايات المتحدة، في جنازة واحدة. هذا سر سحر شخصية عرفات الذي اكتشف كثيرون من خصومه أنهم إذا لم يحبوه في حياته فإنهم أصبحوا يحبونه في مماته. في السنوات الثلاث الماضية كان عرفات وحيدا، يعاني من العزلة التي فرضت عليه، لأن العالم انشغل بحوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما تبع ذلك من حرب في أفغانستان وفي العراق. ثم لأن الولايات المتحدة، الطرف المهم والمؤثر في عملية السلام في الشرق الأوسط، صرفت النظر عن الاهتمام بحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، بعد أن قامت علاقة جيدة بين السلطة الوطنية الفلسطينية والبيت الأبيض في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون.
الرئيس بوش، سمع كلام شارون وعمل بنصيحته في عزل عرفات. وتبعه في ذلك كثيرون بينهم قادة عرب، وقفوا أمام نعش عرفات قبل أن تقلّه مروحية تابعة لسلاح الجو المصري إلى مثواه المؤقت في رام الله، وكأنهم أتوا ليعتذروا إليه لأنهم تناسوه خلال السنوات الثلاث الماضية.
حين تهدأ المشاعر وتسكن الأحزان على غياب فقيد الأمتين العربية والإسلامية، سوف يأتي دور السياسة. في حياته كان يحرج «إسرائيل» في مماته أيضا. إذ أجمع المعلقون الدوليون على أنه لم تعد هناك حجة أمام «إسرائيل» للتفاوض مع الجانب الفلسطيني. وكانت الحكومة الإسرائيلية تصر على عدم التفاوض مع عرفات متهمة إياه بدعم ما تسميه بالإرهاب.
نتيجة لحوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001 واجتياح مرض الإرهاب العالم وخصوصاً في الولايات المتحدة، كان الغرب يساند «إسرائيل» ويؤيد حجتها بعدم التفاوض مع عرفات. الآن ينظر العالم إلى الإسرائيليين ليرى ما ستفعله حكومة شارون. لكن العالم يتطلع أيضا إلى المجتمع الدولي وخصوصاً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكذلك روسيا والأمم المتحدة. ذلك أن قادة العالم يؤكدون على أهمية تنفيذ خريطة الطريق التي وضعتها اللجنة الرباعية الدولية. ينبغي القيام بعملية جديدة لخلط الأوراق. القيادة الفلسطينية المؤقتة أو الجديدة تحتاج إلى المجتمع الدولي.
بعد وفاة عرفات صدرت عبارات تأييد واضحة من قبل زعماء غربيين تحدثت جميعها عن حق الشعب الفلسطيني في الحصول على دولته المستقلة. هذا الحلم لا يمكن أن يتحقق من دون تضامن المجتمع الدولي ومراجعة الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة، للسياسة المتبعة تجاه النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. بعد رحيل عرفات سيعرف العالم أن شارون هو المشكلة الحقيقية وليس عرفات الذي هو حقيقة رجل شعب ورجل قضية... فالشعب لا يموت والقضية لا تموت
العدد 800 - السبت 13 نوفمبر 2004م الموافق 30 رمضان 1425هـ