إذا كانت الكيمياء القديمة قد حولت النحاس إلى ذهب والبتروكيمياء الحديثة قد حوّلت النفط إلى أسمدة، فإن بتروكيمياء «الاستحمار الصفوي» قد صنعت « الدم ترياقاً!».
والكلام للشهيد علي شريعتي المفكر الإيراني الشهير الذي دفع «دمه» ثمناً لهذا الكلام في حضرة «المستحمِر» «والمستحمَر» على حد سواء، إذ مات في ظروف غامضة في لندن في الأيام الأخيرة من كفاحه ضد نظام بهلوي البائد، قال الكثيرون انها جزء من مؤامرة دبرتها أجهزة السافاك الإيراني الشهيرة (المخابرات) للتخلص من مفكر تجديدي إصلاحي ظل يؤرقها لسنوات، لكنها المؤامرة التي لم تزعج دوائر كثيرة من خصوم الشاه البهلوي التقليديين إذا لم تكن قد أفرحتهم!
كان ذلك في عقد السبعينات الذي توج فيما بعد بالثورة الإسلامية الإيرانية التحررية الشهيرة بقيادة الامام روح الله الموسوي الخميني الذي توج كفاحه السياسي بالاطاحة «بالمستحمر» و«المستحمر» في آن معاً.
انها اللعبة القديمة الجديدة للاستعمار وصنائعه المحليين: لعبة فرق تسد.
قبل الغزو الأميركي للعراق حذرنا منها في الوقت الذي جمعت فيه المخابرات الأميركية والبريطانية في مشروع مشترك سمته مؤتمر لندن الشهير وهو المؤتمر الذي توج بما سمي فيما بعد بمؤتمر صلاح الدين والذي انبثق عنه مجلس الحكم الشهير برعاية «محرر» العراق الأكثر شهرة السفير بريمر.
لسنا هنا بصدد تقييم تلك المرحلة التي سينصفها المؤرخون العادلون إن شاء الله، كما اننا هنا لسنا بصدد إصدار الأحكام على أحد ممن اشترك في ذلك المؤتمر الخطير فذلك متروك للتاريخ أيضاً.
لكنني وانا أتابع ما يجري بحق العراق من استباحات متصلة ومتواصلة للدم العراقي منذ الحادي والعشرين من مارس/ آذار من العام 2003م حتى اليوم، لا اجد الا ان اتذكر ذلك اليوم الخطير الذي وضعت فيه «الخميرة» الاساسية للترياق العراقي الجديد. الترياق الدم الذي انتج في معمل الاستعمار والاستحمار الانجليزي بهدف نهب مقدرات العراق وجعله قاعدة ارتكازية للانطلاق منها إلى خريطة سايكس - بيكو الجديدة التي باتت تسمى بالشرق الأوسط الجديد أو الكبير، ولكن على قاعدة المذهبية والعرقية هذه المرة بدلاً من القومية القديمة.
ماذا كان القرار في لندن؟
لقد حاولوا الايهام لعدد من فصائل المعارضة العراقية وقتها بانهم بصدد إسقاط نظام «السنية السياسية» الحاكمة في العراق بقيادة الطاغية صدام حسين لصالح الأكثرية الشيعية والكردية واستبداله بنظام «الشيعية السياسية» القائم على العدل والمساواة! ونظام التعددية الفيدرالي الديمقراطي!
لكنهم في الواقع كانوا يزرعون بذرة الشقاق والنفاق في العراق بوعي وقصد وغاية في نفس يعقوب آخذين بالحسبان وجود قابلية لدى البعض لـ «الاستحمار» لا أحد يأسف على سقوط نظام طاغية ولسنا من دعاة القوموية أو الاسلاموية ولا من دعاة التشدد أو التطرف «السني» أو الوهابي حتى يقال ان وجه اعتراضنا فيه جانب من «الانا» الشخصية أو الفئوية أو المذهبية. لكننا حذرنا ولانزال من فتنة اقتتال مذهبي وعرقي هي قائمة أصلاً وللأسف الشديد وان لم تظهر بوجهها «اللبناني» القبيح كما كانت أيام الحرب الأهلية اللبنانية المشئومة.
إن كل من يقرأ التقارير القادمة من العراق منذ سقوط نظام الطاغية يعرف تماماً بان تعبئة حاقدة وأقولها بصراحة تجري على قدم وساق وبدعم واسناد إسرائيلي وأميركي فيما بين الاعراق والطوائف العراقية التي كانت متآخية مجمعاً كل طرف ذخيرته الأساسية من الخارج ويرمي بها بوجه أكثرية الطائفة أو العرق المقابل آخذاً الأكثرية من كل فئة بجريرة أقلية بائسة لا تمثل مطلقاً هذا العرق أو ذاك أو هذه الطائفة أو تلك. فالناس بأكثريتها الساحقة بريئة من «الاستحمار» والمستحمرين و«المستحمَرين» فيما المنخرطون في مشروع الاستحمار باتت أيديهم ملطخة بدماء الاعراق والطوائف بعلمائها ورجالاتها ووجهائها.
إن الاستحقاق الأهم أمام العراقيين اليوم هو ان يخرجوا موحدين متحدين من فتنة «الاستحمار» مفوتين على أعدائهم مؤامرة اضفاء «المشروعية» الشعبية أو الدينية على ذبح الشيعة مرة بأيد «سنية» أو ذبح السنة بأيد «شيعية» أو ذبح التركمان بأيد «كردية» أو الكرد بأيد «عربية» أو العكس.
واما استحقاق الانتخابات والذي هو على الأبواب فانه من باب أولى ان ينظر اليه كمشروع وطني عراقي كفاحي لتحقيق الاستقلال الناجز والحرية الكاملة الديمقراطية الحقيقية التي تقوم على أسس عراقية وطنية وأصول ومبادئ القيم الدينية والوطنية المحلية النابعة من خصوصيات المجتمع العراقي الحضاري الأصيل، وليست المستندة إلى «القيم» المحمولة جواً القادمة من وراء البحار التي يراد فرضها بالقوة العسكرية ومنطق الهيمنة والعليائية وايديولوجية الاستقطاب الكاذب بين فسطاطي الخير والشر.
وكما يقول أحد حكماء الصين: «انك قد تستطيع فتح العالم من على صهوة حصان، لكنك لن تستطيع حكم العالم من على صهوة الحصان».
أو كما يقول الإمام الصادق (ع): «من دخل في دين الله بالرجال، أخرجته الرجال منه. ومن دخل في دين الله بالكتاب والسنة تزول الجبال ولم يزل».
لذلك فإن أهالي الفلوجة الصامدة الصابرة وقبلها النجف الأشرف والكوت والناصرية والبصرة والموصل، وكل بقاع العراق الطاهر الذين استبشروا أخيراً بزوال الاستبداد وفتح نافذة على الحرية لا يمكن حكم قلوبهم واحتلالها بالحديد والنار وان بدا لوهلة أن مدنهم قد «فتحت»! بفعل ميزان القوة العارية.
وكما هو مطلوب من العراقيين بكل فئاتهم ألا يضفوا المشروعية على أي شكل من اشكال الفتنة والاقتتال الداخلي فإن على دول الجوار العراقي العربية والإسلامية ان يحذروا وينتبهوا لما ينتظرهم من فخ الانخراط في مخطط «الاستحمار» «العراقي» لأن النار المشتعلة لدى الجيران قد تمتد بقوة وعنفوان أكبر باتجاه الجميع، اذا لم يتم اطفاؤها وهي في المهد
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 800 - السبت 13 نوفمبر 2004م الموافق 30 رمضان 1425هـ