العدد 800 - السبت 13 نوفمبر 2004م الموافق 30 رمضان 1425هـ

«دولة» عرفات

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حتى الآن تبدو أمور انتقال السلطات الفلسطينية بعد رحيل رئيسها وقائدها ياسر عرفات تسير بهدوء ومن دون توتر. ويرجح أن يستمر انتقال الصلاحيات من دون تشنج حتى تستقر على قاعدة جديدة من العلاقات لا تقطع مع السلف ولكنها لن تكرر تجربته حرفياً.

هذا الانتقال السهل والسليم يشير إلى وجود نوع من المؤسسات المدنية والهيئات المنظمة والاطر الأهلية التي عرفتها التجربة الفلسطينية على رغم الصعوبات السياسية والظروف الاستثنائية التي يعيشها الشعب الفلسطيني. فالهدوء هو دليل ثقة ويشير إلى وجود نوع من الالتزام الضمني بالثوابت الوطنية التي لم يفرط بها «الختيار» حتى الرمق الأخير من حياته. وهذه الثوابت تتعرض الآن لامتحان، وتبدو كل التصرفات تشير إلى وجود مسلكية تنظيمية تضمن الحفاظ على المكتسبات والبناء عليها لتطويرها في المستقبل.

الامتحان الأصعب لمؤسسات السلطة الفلسطينية وهيئات منظمة التحرير هو انتخابات الرئاسة التي يرجح أن تعقد في ظل الاحتلال في أقل من شهرين. والمخاوف لا تنبع من الداخل الفلسطيني لأن الداخل يتجه نحو الاجماع على حماية التجربة، وإنما تأتي من احتمال تدخل الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أميركياً، لمنع الشعب من الاختيار الصحيح أو تعطيل امكانات اتجاه الانتخابات في الإطار الذي يراه الشعب الفلسطيني مناسباً لمصالحه في الظروف الراهنة.

الخوف على «الديمقراطية الفلسطينية» هو من الاحتلال واحتمال دعم واشنطن لتوجهات ارييل شارون في منع تطوير التجربة وقطع الطريق على الشعب لتحديد خياراته السياسية التي لها صلة بحياته ومعاشه ومستقبله.

هذا هو الخوف الوحيد وما تبقى يعتبر من التفصيلات التي تحصل حتى في دولة كالولايات المتحدة.

إذا مُنع الاحتلال، المدعوم أميركياً، من التدخل في شئون التجربة الفلسطينية فيمكن التوقع بأن تتجه الأمور نحو الانتقال السليم من محطة إلى أخرى. وهذا إن حصل فسيكون الشعب الفلسطيني نجح في الامتحان، وصاغ لنفسه تجربة خاصة لا مثيل لها في المنطقة العربية نظراً للظروف الاستثنائية التي يمر بها منذ العام 1947.

احتمال النجاح وارد إذا استبُعد التدخل الإسرائيلي لمنع تطور التجربة وهذا يدل على وجود هيئات ومنظمات مدنية ومؤسسات أهلية كانت تشارك في صوغ القرارات الفلسطينية في ظل قيادة عرفات. وهذا بالضبط ما يميز القيادة العرفاتية عن غيرها من قيادات عربية استبدت بالصلاحيات وحصرت القرارات في حلقات ضيقة.

عرفات في هذا المعنى يتميز عن غيره من القيادات العربية. فهو أولاً يمثل خصوصية سياسية نظراً لخصوصية الظروف والحالات الاستثنائية التي يمر بها الشعب الفلسطيني. وهو ثانياً يجمع ما بين سلبيات السلطة وايجابيات الثورة الأمر الذي ساعده على الدمج بين سلطة تتوالد وتطمح لأن تتحول إلى دولة وبين ثورة تحاول أن تسترد أرضها وحقوقها لبناء تلك الدولة الموعودة عليها. فالرئيس عرفات هو قائد ثورة موقوفة ورئيس دولة موعودة الأمر الذي اعطاه ميزة لا يتمتع بها أي مسئول عربي. وهو ثالثاً يجمع بين صلاحيات قيادة تنتمي إلى ما قبل «اتفاق أوسلو» تتسم بالثورية والكفاح ضد الاحتلال، وصلاحيات جديدة أضافتها إليه قيادة تستمد قوتها (وأحياناً ضعفها) من مرحلة ما بعد «اتفاق أوسلو». فهو الزعيم والرئيس في آن. وهذا بحد ذاته اعطاه صفة خاصة لا يمكن مقارنتها مع أي رئيس عربي.

كل هذه الاستثناءات أوجدت تجربة عربية فريدة من نوعها نجح عرفات في الحفاظ على نموذجيتها. فهو القائد الرئيس (والمؤسس) الذي حصر مجموعة مواقع اعطته صلاحيات استثنائية، ولكنه في الآن لم يستبد بتلك الصلاحيات. فهو مثلاً لم يعطل المؤسسات المدنية في الشتات والمجتمع الفلسطيني، وهو لم يحارب الهيئات والاطر الأهلية. بل فعل العكس. فهو حصر صلاحيات قيادية في إداراته وجمع مسئوليات عدة ولكنه شجع في الآن كل الهيئات والمؤسسات والاطر على تطوير تجربتها من خلال النقاش والحوار والتخاصم والتفاهم.

هذه الاستثنائية تفسر إلى حد كبير نجاح المؤسسات في ضبط ايقاع انتقال السلطة من دون توتر أو خلافات أو انقسامات. فالمجتمع المقيم والغائب يتمتع بتجربة مستقلة عن السلطة اتاحت له فرص إقامة هيئات نقابية واتحادية شملت عشرات الأندية والاطر الأهلية والمدنية أسهمت في تدريب الشعب الفلسطيني على العمل السياسي والحوار والنقاش والاعتراف بالاختلاف والتعدد من دون تخوين أو ادعاء امتلاك الحقيقة كلها.

هذه الخصوصية تزيد من نسبة التفاؤل وترجح احتمال إجراء الانتخابات الرئاسية الفلسطينية من دون مشكلات. والخوف الوحيد على التجربة السياسية (الديمقراطية) الفلسطينية هو من التدخل الإسرائيلي لاحباطها ومنع تطورها المستقل

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 800 - السبت 13 نوفمبر 2004م الموافق 30 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً